صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

الرواية العراقية وفخ تكرار النسق واعادة الانتاج

يكاد يكون مايمكن ان نطلق عليه (الانفجار الروائي) في العراق وغيره، الذي بدأ منذ مطلع تسعينيات القرن المنصرم، قد اتسم بالتكرار والنمو المتفرع من اصل واحد بشكل لافت للمتتبع لهذا النتاج، لم يسلم منه اهم الاقلام الروائية العراقية مما يشكل ملمحا خطيرا كما ازعم يتهدد حيوية النتاج الروائي ان كنا نتحدث عن جودة الكم وليس تراكما عدديا وحسب.

والمراد من تكرار النسق هنا هو ان يكرر الكاتب ذات البناء الفني في مجمل نتاجه الروائي او في اكثر من نص يكتبه مع تغيير في التفاصيل، او يكرر ذات الفكرة في اكثر من نص، مع تغيير في الشخوص والعوالم، لكن الفكرة تظل ذاتها، او يكرر نفس الشخصيات بذات الابعاد في اكثر من نص من نصوصه.

ربما يعود ذلك لاسلوب غريب اتبعه الكتاب الروائيون العراقيون يعرف بال (المشروع الروائي) وفيه يلزم الروائي نفسه بكتابة نص سنويا واحيانا كل ستة اشهر، هذا يجعل التكرار حتمية لان الكاتب يستهلك مخيلته ولغته ويضحي بعنصر الاختمار الازم لانضاج العمل واكتماله عبر التفاعل السليم بين الموضوع وذات الاديب والمحيط الخارجي الذي سيستقبل العمل الروائي. شخصيا فقدت القدرة على متابعة كتابات الكثير من كتاب الرواية نظرا لان عملا واحدا صار دالا على اسلوب الكاتب يغني عن متابعة اصداراته الاخرى، ثم ان كم الاصدارات غير المحدود يجعل القارئ يتتبع الاسماء الجديدة ليعرف ماذا اضافت ويستغني عن القراءة لمن تشابهت اساليبهم وافكارهم في الكتابة، وانا اتحدث عن القارئ الناقد فلا قيمة هنا للقارئ العادي الذي ينبهر باي عمل يصدر فقط لنقص في خبرته القرائية، علما ان هذا القارئ الغض سيتمكن من رصد التكرارات في هذه النصوص بعد فترة من المواضبة القرائية والتراكمية.

ليست هذه الظاهرة مقتصرة على الادب العراقي فهي ظاهرة تكاد تكون عالمية وتقترن غالبا بالكاتب الذي يكتب بكثرة ويصدر نصا سنويا ويحافظ على هذا الالتزام فيقع في تكرار النسق واعادة الانتاج.

ولابد من ضرب الامثلة لنقف على الفكرة بشكل جلي مع التركيز على اسماء باتت تعد مهمة في تاريخ السرد العراقي، نبدأ مع الكاتب طه حامد الشبيب في روايتيه الابجدية الاولى، والضفيرة والروايتان متطابقتان من ناحية البناء الفني القائم على الفنتازيا المتخيلة ففي النصين خلق لعالم مواز للعالم الحاضر ينتقد الواقع السياسي عبر الرمز الفنطازي وتكاد تكون الابجدية الاولى متفوقة واصيلة اكثر من الضفيرة لان الضفيرة اعادة انتاج للابجدية الاولى، كما ان الكاتب يستعمل اسلوب الجملة المفتاحية في النص (وليته يتخلى عن هذا الاسلوب لان فيه حرق الفكرة واستغباء للقارئ)، في رواية “الابجدية الاولى” يضع الروائي القارئ إزاء عالمٍ مبتكر بكل تفاصيله من أسماء الاشخاص والنباتات والحيوانات واساليب المعيشة والمعاملات، وكأننا نقف عند أعتاب سومر أو بابل القديمة. فهي قرى أبتكرها الشبيب وادار الصراع بينها على يد رجل أو كاهن ملوث التأريخ راغب في تملك أعناق الناس بأسم دينـه الجديد واحلاله محل ديانـات القرى الاخرى المجاورة. تتبعه فئة من ضعاف النفوس والمبعدين اجتماعياً ليشكلوا عصبة قادرة على ضرب القرى الاخرى. فالرواية تحمل معنى التسلط الممتد في كل زمان ومكان وما يجره من دمارعلى الانسـان وكيف يكون مآله دائما الى أحط الاقدار

وكما صنع الشبيب عالماً بديلاً ينتمي الى الماضي فأنه يعود ويصنع عالماً اخر ينتمي الى المستقبل أو أعوام ما بعد الفجيعة كما يسميها الشبيب مستغلاً قضية ثقب الاوزون والاشعاعات الكونية المتسربة منه، ولكنه يصل بالفكرة الى اقصاها، إذ الناس يعيشون داخل أنسجة حافظة تقيهم الاشعاعات الكونية المتسربة داخل بيوت هي أشبه بالصناديق المغلفة بالأنسجة الواقعية. وللناس في هذا العالم أنظمة حكم خاصة يخرقها آخر سلالة آل المحروس الحاكمة ليعيد الدكتاتورية الى الارض بعد ان كانت قد انتهت منذ أعوام ما قبل الفجيعة ، فابن المحروس هذا هو الرمز الذي حملته الرواية.

إشارة لكل طاغية تسيره عقدة التسلط على حياة الناس. ولكنه لا يلبث أن ينتهي على يد نخبة من شبان البلد الصادقين. فكأن الرواية نبوءة عن وضع أهلنا في العراق قبل سقوط النظام السابق وبعده. فالناس في الرواية رغم تخلصهم من هذا الطاغية الذي انتهى مجنوناً في مصح عقلي الا أنهم أمسـوا في ارتباك على من يخلف هذا الطاغية ومن يحل محله..؟!. وفي “الضفيرة” يكرر الشبيب ما بدأه في الابجدية الاولى التــي قامت على فكرة رددها في طول الرواية وعرضها وهي – العبد صانع سيده- اما في الضفيرة فأنه يناقش جدلية العلاقة بين العدل والظلم فيضعنا أمام موقف الظالم والمظلوم والعكس، فالظالم موجود في شخص المظلوم نفسه “تصوروا حجم خيبتي وانا اكتشف بأنني أنتبه لأول مرة الى أن لا أحد من بني البشر يعتقد بأنه ظالم.. والكل يتصور بأنه اذا لم يكن اله العدل فهو في أقل تقدير ملاك للعدل”(1).

وهذا المعنى قد تضمنته رواية الابجدية الاولى على اي حال..

رواية “مولد غراب” لوارد بدر السالم بنيت الرواية على حدثٍ عجائبي إذ تظهر أعراض الحمل على رجل في الثلاثين من عمره في مكان في اهوار العراق أسمه غراب حتى يوشك على الولادة. وهذا الحدث أرعب أهل القرية وعدوه لعنة حلت عليهم، ثم يكتشفون بمساعدة رجل الدين السيد (عنبر) أن غراب ولد نتيجة علاقة غير شرعية بين شيخ القبيلة وامرأة ما، وسكوت الناس عن هذه العلاقة بل تعاملهم معها على أنها أمر واقع لا يستدعـي الاهتمـام، “وما كانت عيونكم ترى ما أراه، ولقد رأتني امرأة أرتكبت خطيئة قبل ثلاثين سنة ماضية ورجل ضل وطغى واغمض عينيه ثلاثين سنة، وبعضكم ممن أراه عاش زمن الخطيئة فسكت مثل الشيطان الاخرس ثلاثين سنة كاملة فخرب الراعي وخرب المرعى ولكن… ها هو الزمن يرجع بأمر الله تعالى ثلاثين سنه ليرجع الراجع الى مرعاه وتتطهر الارحام من الفساد..”(2). نلاحظ التكرار للسنوات الثلاثين ووصفــها بالسنوات المقترنة بالخطيئة والالم والدمار وانتهاء هذه السنوات بحدث مفاجئ يكسر توقعات الظالم والمظلوم على حدٍ سواء ، فالحدث العجائبي نبوءة بالمستقبل او استبصار بالاحداث المستقبلية المتوقعة… ولقد اعاد وارد بدر السالم الحديث عن ذات الفكرة وهي ان السكوت على الظلم يؤدي الى ظلم أكبر، وبنفس الاسلوب في روايته التالية “شبيه الخنزير” إذ يتحول لازم الشخصية المحورية الى خنزير بعد مرض دام عدة شهور وهو الحدث العجائبي الذي ارعب اهل القرية وتركهم في حيرة من أمرهم. فينقسم أهل القرية الى قسمين الاول مع شيخ القبيلة الذي يسعى الى قتل لازم الذي اصبح يهدد وجود الشيخ ويعارض تصرفاته مما يخلخل سلطاته داخل القرية. وقسم أخر يقف مع لازم ضد الشيخ وهم لفيف من أهله ولاسيما زوجته وأولاده.

ننتقل الان الى الروائي علي بدر الذي اعتمد اسلوبا مكررا في بناء رواياته وهو اسلوب المخطوط الذي شاع كثيرا في بناء الرواية العراقية حتى صار نسقا مملا جدا. لكنه صار يكرر امرا اخر في اعماله الروائية الاحقة حد التطابق لاسيما في روايته الكافرة، وعازف الغيوم ففي كلا الروايتين مهاجر من الشرق الاوسط ، امرأة في الكافرة وشاب يعزف التشلو في عازف الغيوم وهم الفئات مستضعفة في الشرق الاوسط يسعون لنيل الحرية وحلم المدينة الكاملة في اوربا بعد ان تعرضوا للاضطهاد على يد المتشددين في بلدهم، لكنهم يصطدمون بمعوقات الحياة في اوربا , ففي الكافرة نجد حوارا تقريرا للبطله تشرح استراتيجيات التحرش والاغواء والاستغلال الذي تتعرض له المراة من الرجال ولا فرق بين الرجال في الغرب او الشرق فالكل يشيئ المراة ويتعامل معها على اساس جنسي فقط.

في “عازف الغيوم” يتلاشى حلم البطل ايضا باوربا الكاملة بسبب المتشددين الدينيين الذي ينبتون كالفطر في اوربا ايضا ويكسرون الة التشلو بعد خلاف معهم بعد ان كسره المتشددون في بغداد. النصان متشابهان يقدمان موضوعات باتت مثل الموضة الان هي الهجرة واحلام الهروب من جحيم الشرق الاوسط المشتعل والصعوبات التي ترافق محنة الهجرة ذاتها. الروايتان تعانيان من تبسيط مخل في فكرتيهما وبنائهما، حتى ان المتتبع لكتابات علي بدر يكاد يصدم ان يتحول كاتب مميزالى الكتابة التجارية التي يقدم للقارئ وجبة سريعة معروفة المكونات سلفا.

نختم مقالنا هذا بالكاتبة انعام كجة جي التي بنت عالمها الروائي في رواياتها (سواقي القلوب، الحفيدة الامريكية، طشاري) على فكرة تداخل العلاقات الانسانية بين ابناء الوطن الواحد بما يشكل روحا وطنية يلتحم فيها الجميع ويصعب محوها وازاحتها، لذا فالعواطف الانسانية كانت مدخلا لاصطفاف الارواح بما يشبه الاوشام التي يصعب ازاحتها.

تحضر في رواياتها غالبا امرأة مسيحية تجتمع حولها الشخصيات الاخرى التي تكون في الغالب متنوعة المذاهب والاديان ففي رواية سوقي القلوب تظهر شخصية كاشانية السيدة الارمنية التي يلتف حولها كل العراقيين في الغربة، اما في رواية الحفيدة الامريكية فقد قام عالم الرواية على الجمع بين اسرة مسيحية ترتبط بعائلة مسلمة شيعية بوساطة الخادمة طاووس التي ارضعت البطلة زينة فصارت اختا لابناء طاووس في الرضاعة، وفي رواية طشاري تكون شخصية الطبيبة وردية وهي سيدة في العقد الثامن من عمرها وتدور احداث الرواة حولها وحول ذكرياتها في العراق كما تجمع شمل الاسرة بمختلف اجيالها. هكذا تبدو الروايات الثلاث نسقا واحدا ممتدا بتفصيلات مختلفة وفكرة واحدة تقريبا.

قد يرتبط التكرار في الانساق بمشروع الروائي الفكري ورغبته في التركيز على قضية ما، او ينجم عن تكرار فعل الكتابة رغبة في الحضور الدائم في المشهد الثقافي باصدارات جديدة او ملئ فراغ الكاتب الامر الذي يدفع ثمنه القارئ لاحقا.

بكل الاحوال احسب ان التأني في الكتابة يعود على القارئ والكاتب والادب بفوائد جمه ليس اقلها تجربة ناضجة وعميقة تضيف لرصيد الجميع ولا تتراكم مثل الصور الممزقة على لوح الاعلانات تتقشر وتتساقط كلما مر عليها رياح وامطار وشمس لا ترحم.

الهوامش:

الضفيرة: ص113

مولد غراب: ص83

 

إقرأ أيضا