منذ عام 2003 تعاني منطقة الزعفرانية الواقعة (جنوبي شرقي) العاصمة بغداد من ظاهرة انتشار المواشي في أحيائها وازقتها. وبحسب اهالي المدينة فان هذه الظاهرة ساهمت في تغيير معالم المدينة الذي يعود تاريخ نشأتها الى العصر المالكي، وتضم في اروقتها معالم تاريخية مهمة ككنيسة (مار بولص)، وعلمية كالمعاهد والكليات، وصناعية وزراعية مهمة، فبعد دخول الاميركان في العام 2003 بدأت تتحول شيئا فشيئا الى شبه قرية بسبب نزوح القرويين ومربي المواشي القادمين من المحافظات الأخرى، ممن اتخذوا معسكر الرشيد الواقع قربها مسكنا عشوائيا لهم.
وادى ذلك الى ارتفاع منسوب العرف العشائري في المدينة وبدأت الجماعات العشائرية تفرض سطوتها على كل مقدراتها بدعم من الاحزاب والتيارات الاسلامية المتشددة، الامر الذي اثر على التنوع الديني والعرقي والطائفي فيها.
وتعد الزعفرانية من أكبر مدن العاصمة بغداد من حيث المساحة والسكان ويقدر عدد سكانها بحوالي 650 الف نسمة عام 2010 بدأت تتأكل بعد العنف الاجتماعي عام 2006 وتفسخ الطيف الاجتماعي فيها بشكل كامل بعد ما تحول مبنى كنيسة مار بولص الى كلية الرشيد الجامعة عام 2013 بسبب هجرة جميع العوائل المسيحية التي كان غالبيتها يسكن في احياء (الكبيسي والربيع ومريم والمعلمين) من المدينة لعدم قدرتها على الاستمرار العيش فيها نتيجة الممارسات القبلية وسطوة العشائر فيها.
ويقول أحمد محسن أحد سكنة المدينة البالغ من العمر (44 عاما) في حديث لـ”العالم الجديد”، ان “المواشي والابقار والجاموس تتجول في كافة احياء وازقة الزعفرانية دون راع”، لافتا الى ان “هذه المواشي، لم تبق أي مساحة خضراء دون ان تعبث بها او تقلعها، وتعمل على تحويلها الى مكان أشبه بمكب للنفايات، واللافت ان هذه الانتهاكات تجرى امام مرى ومسمع المسؤولين المحليين”.
ويضيف محسن “تنطلق هذه المواشي فجر كل يوم يتقدمها كلب لحمايتها. ويتحاشى الاهالي من الاقتراب منها خوفا من اصحابها ذوي النفوذ العشائري”، لافتا الى أن “العيش فيها بات خطرا جدا على صحة الانسان، وذلك لتلوث هوائها ليلاً بأعمدة سحاب الدخان الناجم عن حرق النفايات المتراكمة في المعسكر الذي يقوم به اصحاب المواشي من اجل ابعاد الحشرات عن اجساد مواشيهم، والابخرة السامة التي تخرج من المولدات العملاقة والمصافي النفطية في منطقة الدورة تسبب بحالات اختناق لسكان المدينة”.
وتقع المدينة جنوب شرق بغداد في نقطة التقاء نهري دجلة وديالى، تعتبر المدخل الجنوبي الرئيسي لمدينة بغداد حيث تقع على الطريق الرئيسي الذي يربط بغداد بمحافظات الجنوب.
ويقول الناشط الحقوقي فراس اسماعيل ان “هذه المواشي لا تستطيع اية جهة التدخل فيها خوفا من رعايتها لكونهم عشائريين لا يبالون بالقانون اطلاقاً”، مبينا ان “سكان المدينة قدموا شكوى لاكثر مرة الى مركز الشرطة والمجلس المحلي لمنع هذه المواشي من التجوال وايقاف عملية حرق النفايات في المعسكر، الا انه لم يتخذ بحقهم اي اجراء لازم”.
وتعد الزعفرانية من مناطق بغداد التي تشتهر ببساتينها الجميلة وتحاذيها من الجنوب منطقة الدورة على الضفة الغربية من النهر ويحدها من الشمال الشرقي معسكر الرشيد الذي كان يطلق عليه سابقا اسم معسكر هنيدي في زمن الاحتلال البريطاني, ولازلت هناك مقبرة للجنود البريطانيين عند المدخل الشمالي للزعفرانية.
وتحتوي المدينة على مجموعة من المراكز العلمية من أهمها معهد التكنولوجيا بغداد، ومعهد الإدارة التقني ومعهد اعداد المدربين الصناعيين والكلية التقنية بغداد و كلية الفنون التطبيقية. كما انها تضم واحدة من أهم المناطق الصناعية في بغداد والتي تختص بمختلف الصناعات منها الكهربائية والغذائية والبتروكيمياوية.
ويقع في القسم الجنوبي الغربي من المدينة وبمحاذاة نهر دجلة كل من شركة الصناعات الكهربائية وشركة الصناعات الإلكترونية وشركة الهلال للصناعات الكهربائية وشركة الاصباغ الوطنية ومصانع البيبسي والسفن اب ومعمل اللحوم العراقية ومصنع البيرة الوطنية “فريدة” حتى ان اهالي المدينة يطلقون على الشارع المؤدي إلى المنطقة الصناعية بشارع “البطل” وذلك لوجود لوحة اعلانية لشركة فريدة على شكل قنينة بيرة “بطل كما يسميها العراقيون” في هذا التقاطع سابقا وهو ارقى شارع في الزعفرانية ما يسمى بحي الربيع.
ويضيف اسماعيل “طغيان مظاهر الريف على المدينة انعكس سلبا على قلوب سكان المدينة التي بدأت تختفي تدريجيا، فحلت محل مظاهرها السابقة لافتات بدائية وصور لشهداء التفجيرات ومعارك داعش والدعاية الحزبية وتمتد بشمل بشع من مدخل معسكر الرشيد وتنتهي في بداية جسر ديالى الحديث”، مشيرا الى أن “المدينة لم تعد تغفو على الهدوء كالسابق، بل على سماع إطلاقات نارية كثيفة تحصل بفعل المشاجرات العشائرية او ما تعرف (بالكوامة)”.
وتقول أم فرس (59 عاما) من أهالي المدينة في حديث لها مع “العالم الجديد”، ان “منزلها تعرض قبل ايام الى إطلاقات نارية أصيب على اثرها ابنها الكبير (فراس)”، مبينة ان “من قام بالهجوم على منزلها هو أحد جيرانها نتيجة مشاجرة بالأيدي حصلت بينه وبين أحد من قام برمي كيس النفايات دون عمد بالقرب من منزل المعتدي عليهم”.
وأوضحت أن “المشكلة حلت بعد قيامنا بدفع ديّة معروفة شعبيا (بالفصل) وقيمتها خمسة ملايين دينار كتعويض عن الضرر الذي لحق بالجار رغم انهم من اعتدوا علينا”.
ولم تعد المدينة معروفة بمدرسيها ومعلميها وابنائها المتفوقين دراسياً وعلمياً، وانما بمكاتبها وتجمعاتها العشائرية التي تعمل على تعليم الجيل الجديد على هذه الثقافة الرجعية من سلوكيات ومصطلحات حتى باتت عملاً لمن ليس له عمل او مهنة، اذ يقول أبو جاسم (52 عاما) أحد وجهاء الزعفرانية، ان “هذه المكاتب وجدت لحل المشاكل العشائرية، كما انها تقدم خدمة للأفراد المتقاطعين مع عشائرهم وتتكفل بالدفاع عنهم في النزاعات العشائرية”.
واشار ابو جاسم الى ان “هناك عوائل بالمدينة مدنية ومتقاطعة مع عشائرها، لكن بعد تصاعد حدة المطالبات العشائرية تجمعت مع بعضها واسسوا عشيرة ونصبوا شيخنا لهم”.
وتحدث عن وجود عشائر وصفها بـ”المشكلجية” أي تخلق المشاكل وهدفها الحصول على الفدية او ما يعرف بـ(الفصل العشائري)، موضحا ان “هذه العشائر وصل الحال بها لترك مواشيها ترعى بالشوارع والحدائق العامة، املا منها ان يعتدي عليها احد حتى تقوم بتهديده بالسلاح لدفع فدية عن فعلته هذه، وان الكثير من المطالبات العشائرية حصلت بسبب هذه المواشي”.
الى ذلك، يقول أحد الضباط المسؤولين عن ادارة الملف الامني في المدنية، ان “القوات الامنية لا يتدخل في فض النزعات العشائرية، وهذه هي توجهات من القيادة العليا”، مشيرا الى انه “ياتي يوميا العشرات من المواطنين الى مقر القوات الامنية يطلبون الحماية، نتيجة تعرضهم الى تهديد أو ملاحقة عشائرية”.
ونوه الضابط الذي رفض الكشف عن هويته، في حديث لـ”العالم الجديد” الى أن “الشرطة المحلية هي الجهة المسؤولة عن الملف فض النزاعات العشائرية، ولكنها للأسف الشديد ما تزال ضعيفة جدا، وغير قادرة على ردع هذه الظاهرة”، مؤكدا ان “استفحال القوة العشائر في المدينة بسبب ما تتلقاه من دعم كبير من قبل أحزاب وتيارات سياسية”.