الزيارة الخامسة لبغداد.. انفجار دمعة (1 – 2)

بغداد تربكني دائما قبل وبعد الوصول، حين تصل بغداد تجدها كأنها كتاب كبير مفتوح لا يمكن قراءته بسهولة، لكن هذه المرة أحاول جاهداً أن أقرأ هذا الكتاب. الحزن أمسى الوجه الآخر للمدينة المسالمة التي كانت تسمى مدينة السلام انذاك. 

بغداد المعلقه بين حيرتين، حزنيين، ضفتين، رصافة وكرخ، طائفتين، مقبرتين، خسارتين، قسوتين، زمنين أو تأريخين. بغداد مدينة العجائب والمتناقضات، حب وخيانة.، فقر وثراء، جوامع وخمرة، حجاب، وخلاعة، سيارات فارهة وسيارات مفخخة، مطاعم فخمة، وشحاذون على الأرصفة. 

بغداد حال يرثى لها، حين تنظر إلى هذه المدينة المتربة التي تعيش على الهامش ترى شحاً في الماء، انقطاع في الكهرباء، فوضى في كل مكان والازدحام يخنق المارة والمدينة، نحن نجتاز نقطة التفتيش. 

\”كل شئ تغير هنا، الناس، الجيران، المعمار السائب في البيوت والعمارت\” قالها لي أخي الاصغر. 

قلتُ في سري لعل الحال هذه المرة تختلف، أفضل قليلاً ممَا كانت عليه في السنوات التي مضت. ثمة هدوء وتوجس يسودان البلاد، هذه هي زيارتي الخامسة إلى بغداد، منذ أن غادرتها قبل خمسة عشر عاماً، أعود اليها وكأني لم افارقها أبداً، أتجول فيها وكأني أراها لأول مرة. في كل زيارة يراودني هذا الإحساس. وعند كل وداع أقول لنفسي لن أعود إليها مرة أخرى.

إنه الخريف.. 2009

الأوراق الصفراء تسقط على الأرض تغطي الأرصفة والشوارع. من اللحظة الأولى لوصولي لبغداد صباحاً، هواء مختلف، حواسي تغيرت، أشياء جديدة، الجو ليس باردا، اشعرُ بالراحة بعد رحلة طويلة دامت أكثر من خمس ساعات. الغبار ولونه الترابي يغطي وجه المدينة، الأبنية، السيارات، الملابس والناس.

إنه الخريف وفي خريف بغداد لا تسقط اوراق الاشجار فقط. الأوراق تسقط وجدران المباني.. والضحايا أيضاً. تطير الضحايا في الصباح إلى السماء، وفي المساء يخيم صمت المؤامرة لُنتتج اللون الأحمر الذي يصبغ وجه المدينة في اليوم التالي. 

رأيتُ بغداد تلملم شظاياها من جديد في كل مرة وتُخيط جرحها. انفجار في الضفة الاخرى من المدينة يحرق ضحكتها، صراخ، عويل وموتى يأتي الصوت من بعيد، المدينة تنهض من جديد في اليوم التالي ترتدي حلتها، لا تعرف ماذا يخبىء لها اليوم التالي! هل ثمة انفجار اخر ينتظرها؟ 

بغداد امرأة ثكلى تبكي وتنوح، لا تتعب، لم تنم بوقت مبكر، لم تمت، تتحايل على الموت، ولا تريد أن تموت، إنها متفائلة، تفاؤل عله يضيء العتمة في المكان. بانتظار أن يأتي الربيع وتلبس المدينة الثياب الملونة، تستعيد شبابها من جديد، والشمس تحجب الدخان.

المسرح 

المسرح نشاط مديني بامتياز، إنه دهشة، سحر وانبهار ينتعش بفضاء المدينة وقيمها، لكن المدينة تئن تحت الجراح. في جو رائق وشمس صافية زرت المسرح الوطني لما له من ذكريات عميقة في قلبي، كنتُ ابحث عن صوتي هناك وآثار اقدامي هنا، التقيت باصدقائي وزملائي المسرحيين القدامى والجُدد وتحدثتُ معهم. قال لي احدهم: \”هذا المكان الوحيد الذي يجدد فيك الأمل رغم بؤسه، وتقدم فيه بعض النشاطات الفنية والمسرحية المتواضعة  لكنها كبيرة.. نوع من الانتصارعلى الإرهاب والتفخيخ\”.

نعم لابد لها أن تستمر رغم كل ما يكتنف بالبلاد من مخاطر. انفجار السيارات المفخخة لم تسكت اصوات الفنانين واصرارهم على الحياة. الفنان المسرحي العراقي يصارع الحياة ويتحدى الموت ليثبت انه موجود ويتنفس متحدياً كل الصعوبات والمشاكل اليومية التي تعيق هذا التواصل.

\”يوم الاثنين القادم سنلتقي في المسرح الوطني\” قال لي صديقي المسرحي. 

يوم الاثنين أصبح موعد التقاء الفنانين المسرحين، للتمارين المسرحية أو ترتيب مواعيد فنية، أو: لاستلام رواتبهم الشهرية ومعظمهم لا يعملون! يتذمرون من الوضع السياسي القائم ويطالبون بزيادة رواتبهم. هذا المسرح المتواضع الان هو الوحيد الذي لا يزال يعمل ولم يتعرض للقصف والنهب والسرقة. يشهد عروضا مسرحية بين الحين والآخر، والتي لا تخلو من الخطاب السياسي أوالديني، أو التهريجي احياناً. وأغلب العروض التي تقدم فيه لا تخلو من لغة التذمر من الاحتلال والاضطهاد. قليل منها يقدم تجربة فنية جديدة تدخل في حقل المغامره والتجريب، أغلبها ينشد السفر إلى خارج البلاد. 

رأيتُ المسرح في العراق الان يشكو من الوهن، ويعيش في عزلة، التقليد والتكرار والمباشرة والصراخ، والاسفاف، باستثناء بعض التجارب المسرحية الجادة التي تشق طريقها في بكل ثقة وجدارة ليكون فاعلا في الحراك الثقافي العراقي. ولا بد لهذه التجارب القليلة أن يستع دورها وتأخذ مساحتها في العراق وخارجه، وتتلاقح مع التجارب المسرحية المعاصرة في العالم.

في العام الماضي قدمت مسرحيتي (اين الهناك) في قاعة المسرح الوطني، وهذا العام كنت آمل ان اقدم تجربة ثانية على المسرح الوطني، لكن الاعذار الواهية التي قدمها لي مدير المسرح الوطني باسلوبه المراوغ حالت دون ذلك. في اللحظات الأخيرة تداركت الأمر ووجدت مكانا آخر أكثر دفئاً لتقديم مسرحيتي (اشتعال- انطفال) فكانت قاعة حقي الشبلي في كلية الفنون الجميلة ببغداد هي المكان البديل. استملتُ مفتاح المسرح وفتحت القاعة. هذه أول مرة يكون في حوزتي مفتاح للمسرح يا للدهشة! 

ثمة فتحة في فضاء المسرح تتجمع فيها الطيور لتلقي بفضلاتها على الخشبة، وفي الكواليس قناني فارغة، وملابس رثة متربة متروكة من الأعمال المسرحية السابقة، تراب وغبار هذا هو حال قاعات المسرح في كلية الفنون الجميلة الآن. عادت بي الذاكرة عقدين إلى الوراء حينما كنتُ طالباً وكانت تقدم على هذه القاعات أجمل العروض والتجارب المسرحية للطلبة والأستاذة.. وتذكرتُ استاذي الجليل \”بهنام ميخائيل\”.. كان يطلب منا أن ندخل المسرح برهبة وخشوع كما ندخل معبداً.. وكان يغضب إذا بدرت من أحدنا حركة غير مقصودة.. يمكن أن تخدش أناقة المكان وقدسيته.

كيف بي أن أقدم العرض المسرحي في مثل هكذا مسرح؟ \”لا تهتم.. سنساعدك ونرسل اليك طلبة يساعدونك\”. قال لي صديقاي، وقد أوفوا بعهدهم وتم تقديم العرض بعد جهد جهيد بالرغم من فقر المسرح في كل شىء. شكرا لكل من ساعدني وشاركني هذه المغامرة المسرحية وأنا كنتُ أغامر وأشتعل على الخشبة. الرحلة لم تنته إلى الوطن بعد.. 

* مسرحي عراقي مقيم في هولندا

إقرأ أيضا