حول رواية القنافذ في يوم ساخن لفلاح رحيم
تقترح الرواية عامة، ومنذ بداياتها، موقفاً من العالم، أو تبريراً لموقف منه. وأغلب الرواية الاصلاحية والواقعية في أدبنا العربيّ الحديث هي من النوع الذي يحاول أن يبين موقفه من العالم الذي يتحرك فيه، أو ينتمي إليه الكاتب. ويمكن أن تقرأ أيّة رواية لنجيب محفوظ لتعرف ذلك، أو لتتفق معي حول ذلك. ولكن، وحين أضلت الذات موضع قدميها في العالم وغامت رؤيتها، لم يعد أمامها، إلا أن تقوم بتبرير موقفها مما تمرّ به. وهو ما أوجد رواية السيرة أو ما يشبهها. فرواية السيرة هي حديث عن تجربة الكاتب، وذكر لخطوطها الحادة، وما يترتب عليها من انتقالات تبدو مهمة بالنسبة للذات التي تعتقد أنها متميزة، ينظر إليها الآخرون بعناية، ويرون أن تاريخها ليس تاريخياً شخصياً بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكن هو تاريخ للجماعة. فالكاتب مثقف ومترجم وأخيراً روائيّ في \”القنافذ في يوم ساخن\”.
وسليم في الرواية هو الراوي المعادل للمؤلف. وهو اسم له دلالته. ففي التراث السليم هو الملدوغ الذي يُحْدِث ضجة عالية لكي لا ينام فيتوغل السم في جسده فيقتله. وهو المتململ – كما يظهر فلاح رحيم في صورة المنفى التي ترافق موضوعاته في المواقع الالكترونية. وأن تكون متململاً فإن ذلك يعني أنك لم تفلح تماماً في اجتياز المسافة اللازمة للاطمئنان إلى أنك اعتنقتَ، أو اخترتَ، مبدأ البطولة المناسب لهذا العصر، وهي بطولة سردية وحكواتية وتبريرية أكثر منها بطولة فعلية وواقعية تزاول الفعل على الأرض وتواجه بشاعة اللحظة وقساوة المتغيرات وتكالب التاريخيّ بأبشع أشكاله على ما تبقى من طموح بالعودة إلى الوطن.
يتردد سليم في اقترابه من العراق أولاً بعد سقوط الدكتاتورية عام 2003 عائداً من ليبيا مختاراً سلطنة عمان للتدريس. وهو فيما يعيش سنته الجامعية الأولى كتدريسيّ في قسم اللغة الإنكليزية في إحدى المدن الساكنة، ولكن التقليدية، يتسقط أخبار الوطن من أمّه وأخته ويشهد على انحدار الوضع إلى الهاوية التي لا عودة منها، فيشعر بلا شك في أنه ليس من أفق، إلا أفق المنفى فيما يشبهه الهبوط من الفردوس الحلميّ إلى الواقع المحتم. وهو هبوط يحتاج إلى خطيئة. وكما يصوغ الوعيّ الإنسانيّ بداياته الأولى بتحدٍ، من خارج الذات قام به آدم الذي أغرته حواء، للإرادة الالهية، تسبب في طرد آدم من الجنة.. فإن سليم يذهب إلى تحدي التقاليد القاضية بالحذر من العلاقات الجسدية بالأستاذات الغربيات. ففي عمان سرعان ما تنكشف مثل هذه الأمور وتكون سبباً لعدم تجديد عقد الأستاذ وطرده من المدينة والبلد.
إن سليم الباحث عن المنفى، الذي لا يشعر إن ثمة ما يربطه بهذه المدن، سرعان ما يستجيب لساندرا التي لم يكن يحبّها فعلا ولكنه مع ذلك، ربّما، كان يرى فيها، ولو باللاوعي، سبباً محتملاً أو ضرورياً للإسراع صوب المنفى.
وفي مقابل ذلك يقوم فلاح رحيم باستدعاء صديقه كامل شياع، وضده في الفعل الثقافيّ، وهو في الرواية شهاب الذي يعتنق نظافة الفكر في الثمانينات في أيام حكم صدام، ويدافع عن إبقاء الفكر والثقافة والمثقف بعيداً عن قذارة الواقع وانحرافات السياسة. ذلك فيما كان سليم يطالب بموقف مما يجري، موقف ثقافيّ وفكريّ، فلا يكفي الفكر انكفاؤه على مقولاته وطروحاته دون النظر إلى الواقع والتأثير فيه. أما اليوم وبعد عقود يُفاجَأ سليم المتجه نفسياً صوب المنفى بشهاب يعود من منفاه إلى بغداد ليعمل وكيلاً لوزير الثقافة التي لم تعد غير وزارة مشلولة وحصة لا يسعى أحد من الأطراف السياسية المتحزبة الساعية للمكاسب للفوز بها. وفي حين يحاول سليم الإصغاء لما يقوله شهاب، أو مناقشته فيما يقوله، عن دور المثقف والثقافة في مواجهة الخراب والانهيار الكليّ للمنظومة السياسية والثقافية والاخلاقية التي يمكن أن تنشل العراق من مأزقه، يُصعق بنبأ اغتيال الأخير برصاص مجهولين.
وإذن فلم يعد المنفى بحاجة إلى تبرير، ولم تعد لا جدوى المقاومة بحاجة إلى برهان. وإن كان ثمة خسارات فالخسارة النفسية أهون من الموت، لأن الأولى تأتي بالسرد وبالرواية، فيما لا تأتي الثانية بشيء سوى بمزيد من البراهين على قوة الخراب. وإن كان ثمة تنازل عن شيء فالعطب أو الخسارة الجزئية التي يدفعها الإنسان ثمناً للخطيئة فعلياً (إذ يصاب سليم بمرض جنسيّ معدٍ لا شفاء له نتيجة لعلاقته بساندرا) هو أهون من فقد الجسد كلّه. وبالطبع فرمزياً كانت الخطيئة تبريراً للوجود ومن ثُمّ سبباً للسرد. كما انها في حالة فلاح رحيم سبب للسرد وتبرير للوجود ومدعاة للتعاطف مع السارد الذي قد تربو خسارته على خسارتنا نحن ساكني الوطن ومعتادي الفجيعة به. فهو يعايش وعيه بخطيئته، ويلمس العطب الناتج عنها، ويحاول، من خلال أمثولة شهاب أو لا جدوى المقاومة، أن يجد تبريراً للمنفى وللبقاء متفرجاً على مأساة الوطن.