أصبح السرد بعامّة، والرواية بخاصة، أهم وسائل التواصل المعرفي والأدبي، ولعلّ أهم ما يؤديه هذا التواصل السعي إلى ربط الأدب بسياقاته الاجتماعية والثقافية والتاريخية، عبر إنتاج أشكال أدبية جديدة، تتيح للمتلقي استثمار آليات القبض على الجمالي وتأويله، بما يتماشى وسياقات التلقي التي تتحكم فيها ظروف كثيرة ومتنوعة، تبعًا لاختلاف وجهات نظر القراء واستعدادهم الثقافي، وأجهزة تلقيهم للنصوص على اختلافها.
يحدُث أنْ يثيرَ عمل أدبيّ جدلًا بين متلقيه، وأن يمنح المشهد الثقافي حركيّة جديدة، هذا ما حصل مع صدور رواية: (جمرات من ثلج) للكاتبة والشاعرة اللبنانية: مها خيربك – لكون العمل خرج عن التقاليد المتوقعة، وخاض عملية تجريبية خاصة تقوم على صناعة الخطاب الروائي، وفقًا لرؤية معينة. فأنبرت له الأقلام بمساءلته وقياسه مقارنة بمَن يكتبون ليكونوا في صدارة قائمة المجربين باعتبار الرواية من أكثر الأشكال الأدبية قبولًا للتجدد والمرونة، وصياغة أسئلته وهذا شيء طبيعي، ما دامت الكتابة تعمل على صدم أفق انتظار القارئ، لتجعله في كل مرة أمام تقنيات جديدة، تخرق وتتجاوز تقاليد مهيمنة.
نمر اليوم بمرحلة مهمة من تطور الرواية العربية، حيث أصبحت في كثير من ملامحها استكتابًا نخبويًا من أجل التباري على الجوائز، وحضور المؤتمرات والتقافز، وإن شئت التكافش على المنصات الإعلامية التي أفسدت جزءًا كبيرًا من الذائقة العربية.
بالرجوع إلى الرواية – وأعني جمرات من ثلج – عملت الكاتبة مها خيربك على إمتداد سرديتها على مشاكسة أفق قارئٍ تعوّد على تلقي الرواية التي تكتبها المرأة بالتركيز على ثيمة الجسد، وما تستدعيه من تفاصيل أخرى، لعلاقة الرجل بالمرأة، وهذا ما بدا واضحًا في روايات عربية كثيرة، يضيق المقام لذكرها.
جمرات من ثلج، رواية تشتغل في منطقها، وسير أحداثها خارج تضاريس الجسد الأنثوي تمامًا، وتهدف لوضع فهم جديد لسرد نسوي، ينماز عن غيره بالتسامي في حديثه عن المرأة، والانغماس في أحداث عصره وتحوّلاته السريعة، واستثمار المعطى اليومي/ العادي وتوظيفه لخدمة موضوعه، وصياغة الأسئلة حول الهُوية الثقافية وعلاقتنا بالآخر. هذه الرواية وأمثالها من الروايات، وأذكر هنا رواية: على شفا جسد للكاتبة العراقية رشا فاضل، كتابات تعيد للسرد النسوي إعتباره، وتزيح نمطيّة المتلقي، والقراءة الذكورية التي تنبت على جسد أنثوي مباح سرديًا. السؤال الذي يواجه الروايات الرائجة في هذا المجال: هل تتحقق أدبيّة السرد النسوي بواسطة الجسد فقط؟ وما الذي ستخسره الرواية لو تنازلت عن الجسد وتفاصيله؟.
أظنّ ستخسر زبائنها الذكوريين، وكثيرًا نسبة المبيعات. لكنها، ستؤسس نوعًا نحتفي به، بعيدًا عن تراكم الكمّ.
وهي بهذا المعنى، أيضًا، تسعى إلى تحديث وعي القراءة.
السرد خارج الجسد
2013-09-28 - منوعات