في مقابلته الاخيرة مع احدى الصحف البريطانية، اعلن السيد مقتدى الصدر موقفا من مسالة الاستعانة بالأمريكيين والغرب، في عملية اسقاط صدام حسين عام 2003، معتبرا تلك \” الاستعانة \” خطأ، وهو موقف معاكس لكل أيديولوجيا الحقبة الاحتلالية، كما تمارسها قوى \”العملية السياسية الطائفية\”، بما في ذلك قوى علمانية مرتدة، سطحية، وعدمية، تصدرت المشهد خلال فترة استثنائية شاذة على المستويين العالمي والمحلي، فما قاله الصدر مؤخرا لم يسبق لأي جهة او شخصية، او طرف من الاطراف، ان اقترب منه، او حاول الاستدراك مراجعا تجربة السنوات العشر الاخيرة، ومفتتحها الاحتلالي، وأثره والنتائج التي ترتبت عليه.
فالذين طلبوا الامريكيين وتعاونوا معهم، او عملوا تحت لوائهم، وصاروا بموقع الحكام بعد الغزو، ليس لديهم من راية يحملونها، سوى التبشيع الأقصى لنظام صدام حسين، وكأنهم بذلك يهربون من ذنب او جريمة ارتكبوها، ولا يجدون ما يبررها، سوى المزيد من الإيغال في شيطنة شيطان ازالوه بالوسائل الخطأ، هذا بينما ظلوا يصرون على اعتماد خطاب متهافت، يطلق على \”الغزو\” تسمية \”التحرير\”. وفي حالات الحرج \”التغيير\”.
أكثر من هذا لم يعد النظام الدكتاتوري السابق مجرد شماعة تعلق عليها خطيئة، او جريمة التعاون مع الاجنبي، بل تعدت ذلك لتتحول غطاء باليا، يريدونه حصانة للجريمة اليومية التي يواصلون ارتكابها بحق المجتمع والكيان، من فساد ونهب، وفوضى واستهتار بالأرواح، فالدكتاتوررية الطائفية تعتاش على جثة \” الدكتاتورية الصدامية\”، وتتشابك معها، من جهة في تبرير الخطأ الذي استعمل في ازالتها، كما في رفع السيف بوجه كل من اعترض على ما اعقبها من كارثة لا قرار لها، ولا نهاية معلومة، أو هدف يمكن توقعه غير الاسوأ.
فهل الذي قاله الصدر مؤخرا، هو التكملة الطبيعية لإجمالي الانحدار والتهافت الشامل، الذي بلغه مشروع الحكم \” الطائفي\”؟.
وهل نحن امام بداية تصفية هذا الخطاب الاحتلالي، بما قد يفضي الى عودة انتاج الخطاب الوطني و إعلائه؟، وإذا حدث ذلك، فكيف ووفق اي من الاسس والمستجدات، او حتى تغيير مقاربة قضايا جوهرية، افتقدها الخطاب الوطني الشعاراتي الحزبي السابق، وكانت تنقصه بقوة، ليس فقط في الممارسة، بل على مستويي الرؤية والمرتكزات.
وقد يكون من البديهي اليوم ان نذكر، بان موقف السيد مقتدى المتأخر الحالي، لم يكن غائبا عن عالم المعارضة ووقائع الغزو عام 2003، وليس من قبيل المماحكة التذكير بان تيارا داخل المعارضة العراقية، اتخذ موقف رفض الاستعانة بالأجنبي لإسقاط النظام، وانه تبنى في حينه، مواقف علنية تطالب بـ \”التغيير بدون حرب\”، محملا المجتمع الدولي، مسؤولية ايجاد الوسائل المؤدية \”للتغيير\” من دون \”تدمير\”، ومعتبرا خيار الحرب خيارا أمريكيا بحتا، لا يتفق مع مصالح الشعب العراقي.
هذا التيار الذي كان يعمل وسط غلبة وهيمنة مطلقة، للنفوذ الأمريكي عالميا في حينه، تحمل كل ما يمكن تصوره من التشنيع والتضييق والحصار، عربيا وعالميا، واستمر يتحمل العداء بعد الاحتلال وحتى اللحظة، متعرضا لحملة محورها الاتهام الرخيص بالتعاون مع النظام، او في افضل الاحوال، العمل على إنقاذه، والى ما يتبع ذلك من اساليب التشنيع، وفبركة التهم والأكاذيب. فخطاب \” التحرير\” او \”التغيير\”، هو خطاب احتلالي قمعي وإقصائي بامتياز، يعكس ذروة تجلي ازمة سياسية وفكرية وطنية، تهيمن منذ عقود على اوساط وقوى، ما كانت لتقدم على الإستعانة بالأجنبي ضد بلادها، لو انها بالأصل كانت سليمة، او معافاة، او تملك المقومات التي تؤهلها لقيادة البلاد، والسير بها نحو الأفضل.
ولعل افضل ما يعطي لموقف تلك القوى الوطنية قيمته التاريخية الان، وبهذه المناسبة الموحية بإعادة الاعتبار لموقف جهة بعينها، ان يذهب هذا التيار ومن يمثلونه الى استكمال موقفهم من الغزو الامريكي، بالانتقال من تسجيل موقف الرفض للعدوان الاجنبي عام 2003 الى تقديم رؤية تفسر تاريخيا، عوامل وأسباب انحدار تلك القوى التي قبلت التدخل الاجنبي، وسعت اليه.
فالأمر لم يكن مجرد خطأ عارض، بقدر ما هو تعبير عن فشل وانهيار مشروع تاريخي كامل، فالحداثة السياسية وتجربتها التي شملت القرن الماضي من تاريخ العراق، انتهت الى طريق مسدود، والى ازمة وطنية شاملة، كان مظهرها الابرز أصلا وصول صدام حسين ونظامه للحكم.
فوصول البعث الصدامي للسلطة عام 1968، كان اعلانا عن حدود وممكنات تجربة بدأت من الثلاثينات، عندما نشأت الاحزاب العصرية القومية والماركسية والليبرالية، وطغت لتغدو هي الوطنية المتاحة، ففترة الوطنية الحزبية تلك، جاءت نتيجة عجز تكشفت عنه محاولة التيار الوطني بقيادة جعفر ابو التمن، منعه من ان يقيم حركة وطنية عراقية شاملة وواسعة، ما ساعد التوجهات الحزبية المعومة بالأيدلوجيات، وبدفع أوضاع عالمية مناسبة، على احتلال ساحة العمل الوطني، فجرى تعويض نقص التبلور الوطني العام، بجزئية الأيديولوجيا والتنظيم السري والبيان.
ومع العجز عن مقاربة الواقع وآليات حركته، طغت مرحلة من المقاربة الأيديولوجية المقحمة على الظواهر والواقع، ما حول الاحزاب الى قوة استبدال للمعاش بالمتصور، بينما استمرت تلك الاحزاب محكومة في العمق لفعل قوانين موروثة غير مكتشفة، استمرت تفعل فعلها، فتطوع تلك الاحزاب لمقتضيات واغراض البنى التقليدية، الى ان انتصرت شروط البنية التقليدية، وتحول حزب ايديولوجي قومي الى اداة في خدمة مجموعة قرابية ريعية، ما كان في الواقع هزيمة للمشروع الحداثي الأيديولوجي برمته، فنظام صدام هو بالاصل دليل هزيمة قوى ماسمي لاحقا ب\”المعارضة\”. اخرجها من الفعل، وكان ينبئ بنهايتها الكلية.
هذه القوى العاجزة عن فهم، او التعامل مع واقعها، والتي اثبتت لا تطابقها مع ظروفها الوطنية، ما كانت كقوى مهزومة، تملك اية موانع تحول بينها وبين ان تتصرف بعدمية وطنية، وتقبل التدخل الاجنبي، وتسير في ركابه، فهي لا تملك بذاتها اي امل، ليس في ازالة النظام الصدامي، لا بل حتى في الاستمرار كقوى حية.
لقد كان التدخل الاجنبي والقبول به، نتاج ظرف دولي انتقالي استثنائي، ولم يكن حتميا، بدليل ما يجري اليوم في سوريا على سبيل المثال، إلا انه حدث في سياق ازمة وطنية تاريخية عراقية، تجلت مظاهرها وتتجلي حاليا من خلال ممارسة، وسلوك، ومآلات نظام \”المحاصصة الطائفية\” الذي كرسه الإحتلال، ليدخل العراق آتون حالة من الفوضى الخطرة والكارثية على جميع الصعد، وإذا كان من مخرج اليوم مماتخوف منه الصدر، باعلانه الخشية على وحدة الكيان، ووحدة الشعب العراقي، فانه لن ياتي لا بالشعارات ولا بمجرد اتخاذ مواقف.
فالخروج من ازمة العراق التاريخية المتفاقمة، يتطلب عملا شاملا طويل الامد، يرمم ويعيد تأسيس الوطنية العراقية على قواعد جديدة، تتجاوز \”الوطنية الحزبية\” والأيديولوجيا، لتحل احكام البنية والواقع التاريخي ومفاعيله.
*كاتب وسياسي عراقي.