بحلول الذكرى الثامنة قبل أيام، لمعاهدة “الدرع الأزرق” العالمية المنعقدة في مدينة “لاهاي الهولندية” والتي أبرمت عام 2016، يسر “العالم الجديد” أن تحاور الكاتب والسينمائي العراقي الكبير قاسم حول، كخبير أقدم في منظمة اليونسكو وكمشرف عام على “لجنة الحسن بن الهيثم للذاكرة العراقية” التابعة لرئاسة الوزراء، للغوص في تجربته بإنقاذ ما تبقى من أرشيف العراق المرئي من الزوال ودوره بتأسيس اللجنة في العام 2019.
يستهل حول، حديثه بالقول “في العام 2009 كانت لي أول زيارة للعراق، بعد تغيير النظام الدكتاتوري، وقد جئت لإخراج فيلم المغني، في مدينتي البصرة، وبعد أن أنهيت تصوير الفيلم، قررت السفر نحو بغداد لاستكمال حقوقي التقاعدية، وللتأكد من مصير فيلمي “الأهوار” قياس 35 و16 ملمترا، التي قام النظام السابق بإحراقها مع الوثائق الفيلمية الأخرى التي صورتها في أهوار الصحين والفهود والجبايش بعشر ساعات تغطي مساحات الأهوار، والتي تضم كل وثائق الحياة الإجتماعية والبيئية والاقتصادية والتاريخية والثقافية والجمالية وعموم الحياة الإنسانية، وذلك بقرار من حكومة الدكتاتور صدام حسين وعصابته، بعد تجفيف الأهوار بذريعة اختفاء المعارضين بين القصب، وبعد أن تم تعييني بشكل مؤقت لاستكمال معاملتي التقاعدية في وزارة الثقافة، علمت بأن الوثائق السينمائية السالبة من تاريخ العراق المصور/ النيغاتيف، موجودة في بناية المنتدى الثقافي التابع للوزارة والواقع على ساحل نهر دجلة في نهاية شارع الرشيد. فقررت الذهاب والتأكد فيما إذا كان فيلمي ووثائق الأهوار قد أحرقت فعلا، وحين دخلت المبنى وجدت الطابق الأرضي، من المنتدى مشغولا من قبل بعض العاملين في السينما وهم ليسوا من منتسبي الوزارة ولا دائرة السينما، كما لا أحد يعرف كيف شغلوا هذا المقر، لكني شاهدت الطابق الأول وقد انهار سقفه الكونكريتي، فوق آلاف علب الأفلام السينمائية، ليست الروائية فحسب، بل الوثائق الفيلمية المصورة والتي سيأتي الحديث عنها وكشف أهميتها الوطنية”.
ويضيف “كان من الصعب البحث عن فيلمي بين الأنقاض والصخور والأتربة والطين، ولكن أول ما وقع بصري عليه، شاهدت خمس علب سينمائية صدئة، سعة كل علبة 1200 متر “قياس العلبة” أي ما يساوي 40 دقيقة لكل علبة، أي ما يعادل 200 دقيقة فيلمية من السالب النيغاتيف، وقد كتب على كل علبة “فائق حسن”. وفائق حسن هو أهم تشكيلي في تاريخ العراق، وهذه الأفلام مصورة عن حياته وآرائه السينمائية وحياته أثناء الرسم في ورشة عمله الفنية، وفي أكاديمية ومعهد الفنون الجميلة ومعارضه الفنية، فـ”فائق حسن” هو “بيكاسو” العراق، ولكن العراق ليس أسبانيا للأسف، لقد انهار السقف على تاريخنا الموثق منذ حرب الخليج في العام 1992، وهي تحت الأمطار شتاء، وتحت درجة حرارة تتجاوز الـ50 درجة صيفا، في وقت ينبغي حفظ الوثيقة السالبة ” النيغاتيف” في درجة حرارة ثابتة تبلغ خمسة تحت الصفر، فيما الوثيقة الموجبة “البوزتيف” ينبغي حفظها بخمس درجات مئوية ثابتة، وكلا الوثيقتين ينبغي أن لا تمسهما الرطوبة أو تصلها ذرة واحدة من الغبار.. غادرت بناية المنتدى، وذهبت إلى وزارة الثقافة والتقيت الوزير سعدون الدليمي، ونجحت في الحصول على وسائل نقل كافة الوثائق، التي تقدر بالأطنان إلى بناية جديدة مجاورة لدائرة السينما في الكرادة، وأمنت نقلها وخزنها بعيدا عن أيدي اللصوص، وبعيدا عن الأمطار والحرارة والبرودة. وفي بحثي عن الجانب الموجب البوزتيف، علمت بأن هذا المعادل البصري “البوزتيف/ الموجب” والذي يقابل مادة النيغاتيف، محفوظ هو الآخر في سرداب، حيث يقع تحت كافتيريا دائرة السينما والمسرح المستأجرة من قبل أحد المقاولين، والذي يفتح الكافتيريا مرتين في الأسبوع، ثم تغلق وتبقى الأفلام دون تبريد ودون كهرباء، فيما سقف السرداب مثقوب وتنزل مياه الأمطار أيام الشتاء، حيث الأفلام المصورة محفوظة في المياه، والعلب يعلوها الصدأ وتأكلها القوارض.. وكانت عرضة للنهب الدائم، قبل أن نعمل على إنقاذها كخطوة أولى قبل الترميم، وبعد أن عثرنا على مهزلة الأرشفة والحفظ المتمثلة بقوائم الأفلام محفوظة في “شال” إحدى الموظفات وبعض القوائم مدونة بالحبر السائل على الأرض.
ويتابع “كانت الوثائق الفيلمية في متناول الجميع والسارق ينهب ويبيع دون وازع من ضمير، يبيعون تاريخ العراق وأسراره، ولم يكن هناك من حل سوى نقل كافة علب السينما، حتى وإن كان يأكل الصدأ من تدرجاتها اللونية، فهي ستكون بحاجة إلى ترميم علمي داخل العراق، مع منع التدخل الخارجي، فخبرتنا كبيرة في هذا المجال، فقد سبق لي أن رممت كل وثائق اليمن منذ أيام البريطانيين، ورممت كل وثائق ليبيا، والكثير من وثائق فلسطين، خصوصا وأن لدينا كفاءات شابة وطنية داخل المؤسسة”.
وبشأن الوثائق السينمائية التي سعى حول للحفاظ عليها من السرقة وترميمها، يشرح بالقول، إنها وثائق تحتوي مليارات الحقائق الموضوعية وملايين الأمتار السينمائية ومئات الآلاف من الساعات الفيلمية صورة وصوتا، وهي أهم بكثير من الوثائق الورقية مع أهمية الوثيقة الورقية أو الوثيقة الصوتية، أو الوثيقة الفوتوغرافية التي ينبغي أن تتم أرشفتها إلى جانب الوثيقة المتحركة (الفيلمية)، مبينا أنها “تتمثل بالوثائق التي كانت تصورها شركة نفط العراق، وفيها قسم سينما تم تأسيسه من قبل الروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، وكانت توثق حياة العراق في الحقبة الملكية من التظاهرات والحياة السياسية والدينية، وزيارات المراقد المقدسة، ومراقد الأئمة في المناسبات، وحفلات تتويج الملك، ومناسبات اغتيال الملك غازي، وأحزان العراقيين يوم وفاة الملكة عالية، وتتويج الملك فيصل الثاني، والفيضانات وحياة الجامعات، وإنتاج التمور، ومصانع العراق، والحياة الثقافية العراقية من المسرحيات والفنون التشكيلية ومعارضها، وافتتاح محطة التلفزيون ومحطة الإذاعة العراقية وبناء السدود والبحيرات، وحياة المفكرين والشعراء، والتظاهرات خلال وثبة كانون وانتفاضة تشرين، وحياة الشاعر الرصافي والزهاوي والسياب وسواهم، والتظاهرات في المناسبات الوطنية وحياة الساسة كامل الجادرجي وفائق السامرائي وإبراهيم كبة ومحمد سلمان حسن ومحمد حديد ومهدي كبة وفيصل السامر، وجعفر البدر، وعبد الله عباس وأبو فايق، وحياة رجال الأعمال ومصانع الزيوت والصابون ومصانع الحديد، وحياة العشائر العراقية وتاريخ المرجعيات الدينية، والزيارات السياسية والثقافية، زيارة ساسة بريطانيا وزيارة محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش، يوم افتتح الإذاعة العراقية مع الملك فيصل الثاني وولي عهدة الأمير عبد الإله، والمحاولة الإنقلابية في الأربعينات حركة رشيد عالي الكيلاني، وإنشاء السكك الحديدية العراقية ودخول القطارات في حياة العراقيين ودخول الباصات البريطانية الحمراء ذوات الطابق والطابقين.. وكانت هذه الأحداث الاجتماعية والثقافية والاقتصادية تصور بالأسود والأبيض، ثم عندما دخل الفيلم الملون صارت الأحداث تصور بالألوان، وكانت ترسل إلى بريطانيا لتظهيرها ومن ثم طباعتها، وإلى جانب ما تصوره شركة نفط العراق، كانت وكالات الأنباء: فيز نيوز، ووكالة باث، تقوم بتصوير أحداث العراق المتمثلة بزيارة ملوك السعودية، والأردن وحياة المسز بيل والملك غازي والملك فيصل الأول عند تأسيس الدولة العراقية، وكذلك ثورة العشرين وانتفاضات العشائر العراقية، وأغلبها كانت تصور بأفلام قياس 16 ملمترا، وليس بقياس 35 ملمترا، وباقي مراحل حياة العراق والعراقيين”.
ويسترسل بالقول “عندما حصلت ثورة العراق في الرابع عشر من تموز 1958 ألغي قسم السينما في شركة نفط العراق، ونقلت أجهزة الشركة المتواضعة، من الكاميرات وأجهزة المونتاج إلى مؤسسة سينمائية سميت بمصلحة السينما والمسرح وترأسها الفنان (الراحل) يوسف العاني، وباشرت تصوير الأحداث الجديدة والحياة الجديدة في العراق تصويرا يوميا، وحتى عودة الكرد من الاتحاد السوفياتي مع ملا مصطفى البرزاني بالباخرة ووصول الكرد إلى ميناء البصرة من الاتحاد السوفيتي، واستقبال أهالي البصرة بتظاهرة من الزوارق والمشاحيف ملأت شط العرب، احتفاء بوصول إخوتهم من المنفى!. كان قد صور على ما أتذكر بالتفاصيل، وكذلك تم استيراد أحدث الأجهزة السينمائية تقنيا بدعم من قيادة الدولة العراقية، حتى أني أتذكر شراء أول جهاز مؤثرات بصرية بمبلغ 150 ألف دولار لتطوير تقنية السينما وهو أول جهاز يدخل الحياة السينمائية في المنطقة العربية، بحيث توفرت للفترة من 14 تموز 1958 ولغاية الانقلاب الفاشي في الثامن من شباط 1963 كمية هائلة من الوثائق السينمائية وكلها مصورة بقياس 35 ملمتر وبالصوت المتزامن مع الصورة، وكانت فيها مقاطع من كلمات الزعيم عبد الكريم قاسم وذكرى اندلاع ثورة تموز ومناسبات يوم العمال والنشاطات الحيوية لحياة الشعب العراقي”.
وحول مصير تلك الوثائق، يقول حول “بعد انقلاب 1968 دخل دائرة السينما والمسرح، مدير الإذاعة والتلفزيون محمد سعيد الصحاف (وزير الإعلام في النظام السابق)، وطالب بمشاهدة تأريخ العراق المصور، للبحث عن بعض الساسة البعثيين، لعرض حياتهم أمثال أحمد حسن البكر وصدام، فباشر بمشاهدة الجريدة السينمائية المرئية التي تحتوي كافة أخبار العراق سواء تلك التي كانت شركة نفط العراق تصورها في الحقبة الملكية، أو ما صورته مصلحة السينما والمسرح التي تأسست إبان ثورة 14 تموز، وعندما شاهد الصحاف لقطات لعبد الكريم قاسم، وهو يحيي الجماهير في مناسبة يوم العمال العالمي وهو في شرفة وزارة الدفاع، قال لمدير دائرة السينما الذي يجلس إلى جانبه: لقد جئنا للسلطة وهذا لا يزال حيا، ويقصد بذلك الزعيم قاسم، فطالب بجمع كل ما تم تصويره خلال حقبة الأخير، حيث تم جمع وإحراق كافة الأفلام الوثائقية، والمجلة السينمائية المرئية، التي تضم أحداث ما بعد ثورة تموز، ويومها كنت أنا في لبنان مع المقاومة الفلسطينية “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” وعندي قسم للسينما وأحرر القسم الثقافي لمجلة الهدف التي يترأسها الكاتب الكبير “غسان كنفاني”، حيث عقدت مؤتمرا صحفيا في نادي الجنوب اللبناني في بيروت، والذي يترأسه الشاعر حبيب صادق، وأعلنت كافة التفاصيل عن أرشيف العراق والفعل الدنيء لهذا الحزب الفاشي وقياداته الفاشية بإحراق هذه الحقبة المصورة من تاريخ العراق. وحضرت المؤتمر موظفة من سفارة العراق التي نقلت ما دار إلى بغداد”.
ويضيف “كل ما تشاهدونه الآن من بعض اللقطات أو الصور الفوتوغرافية لعبد الكريم قاسم، هي ليست سوى بضع لقطات أو بضع صور فوتوغرافية على اليوتيوب مصدرها وكالات الأنباء العالمية ومصورون فواتوغرافيون”، مؤكدا “خسارة ملايين الساعات المصورة والجميلة من هويتنا الثقافية والوطنية، حيث بات من المؤسف أن يتكرر الفعل الدنيء مرة ثانية وثالثة”.
وحول ما بعد 8 شباط فبراير 1963 يشير إلى أن “انقلابيي شباط، اغتالوا كل قادة ثورة 14 تموز، حيث جرت إبادة كل الوطنيين والحزبيين المناوئين للفاشية، وكانوا يصورون جرائمهم وإعداماتهم، وكانوا قبل ذلك يبثون فيلما واحدا عبر شاشة التلفزيون.. يحمل اسم: حمامات الدم، بطول 20 دقيقة، وهو فيلم مزور للحقائق يدين عبد الكريم قاسم والضباط الأحرار والقوى الوطنية العراقية.. هدفه تبرير جرائم الإبادة التي كانوا يقومون بها.
ويلفت إلى أن “عددا من عديمي الضمير قاموا ببيع ما وقع بأيديهم من تاريخ العراق في أزقة ودرابين شارع المتنبي، وثمة مشترون مكلفون من جهات خارجية بدفع ثمن علب الأفلام، وتهريبها عبر إقليم كردستان إلى إسرائيل ودول خليجية وغيرها”.
وبعد هذه المرحلة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ينتقد قاسم حول، من ساهموا بقرار الحكومة السابقة، في إبعاده، متهما مستشارين حكوميين دون أن يسميهم بـ”المساومة على بيع وتهريب أسرار العراق المصورة وفيها من الحقائق الخطيرة”.
ويسترسل “حاولت الحكومة (السابقة) التعاقد مع جهات فرنسية مشبوهة، قمت بعقد مؤتمر صحفي مع ممثل منظمة اليونسكو في العراق الدكتور ضياء صبحي السراي، في مدينة روتردام الهولندية بحضور وكالات الأنباء ومنظمة صحفيين بلا حدود وعدد من السفارات العربية وبحضور سفير العراق، وفضحنا بالوثيقة والصور المتحركة محاولة خيانة الوطن وبيع تاريخه وحملنا السفارة العراقية مسؤولية إيصال ما جرى وما قد يجري من بيع تاريخ الوطن، حيث نجحنا في إيقاف هذا المشروع”.
ويقول “كانت الوثائق الفيلمية في متناول الجميع والسارق ينهب ويبيع دون وازع من ضمير، يبيعون تاريخ العراق وأسراره، ولم يكن هناك من حل سوى نقل كافة علب السينما، حتى وإن كان يأكل الصدأ من تدرجاتها اللونية، فهي ستكون بحاجة إلى ترميم علمي داخل العراق، مع منع التدخل الخارجي، فخبرتنا كبيرة في هذا المجال، فقد سبق لي أن رممت كل وثائق اليمن منذ أيام البريطانيين، ورممت كل وثائق ليبيا، والكثير من وثائق فلسطين، خصوصا وأن لدينا كفاءات شابة وطنية داخل المؤسسة”.
وحول مصير الوثائق المتبقية من تاريخ العراق وهويته الثقافية الوطنية، يقول “تمكنا مرة أخرى من طرد الجهلة والمتربصين بسرقة وتدمير تاريخ العراق، الذين تعمدوا وضع العلب الفيلمية في ظروف سيئة مع إهمالها لدرجة قيام البعض بتربية الدواجن في إحدى الصالات المخصصة للأرشيف وفي درجات حرارة تتجاوز الـ50″، مستدركا “لم يمر وقت طويل حتى بدأ صبية البعث ومن ورائهم المترصدون في دول أوروبية لسرقة وثائق العراق وأسراره، خصوصا وأن تجارب من هذا النوع باءت بالفشل، لاسيما وأن هناك أسرارا كثيرة بين دول معينة ونظام صدام حسين”.
ويناشد رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، لـ”الاهتمام بالوثيقة والوثيقة المرئية، وتشكيل مجلس إدارة من كبار الشخصيات الوطنية والثقافية وأصحاب الخبرة لإدارة لجنة الحسن بن الهيثم، بدلا من إدارة الفرد الذي قد يقع في خطأ غير مقصود”، محذرا من “أي تأخير في الاعتماد على الطاقات العراقية الوطنية وأصحاب الخبرة لترميم الأفلام قبل أن تضمحل الصورة وصوتها، وتحويلها إلى ذاكرة رقمية والاحتفاظ بالأصول في بنوك الأفلام المبردة، فلقد مضى على نقلها وإنقاذها من تحت الأنقاض ومن المياه الآسنة أكثر من خمس سنوات”.
ويختتم حديثه بالقول “تذكرني تلك الأحداث بمقولة للكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني: حين تخون الوطن، لن تجد ترابا يحن عليك يوم موتك، ستشعر بالبرد حتى وأنت ميت”.