شاعرٌ انبثق شعره من دخان الحروب و”خرج منها سهواً”، الشاعر العراقي عدنان الصائغ من مواليد 1955. لمْ تسمح له ظروفه القاهرة من اكمال دراسته إلى الجامعة. لكنه واصل دراسته بنفسه بدأبٍ وإصرار وتحدٍّ، شاقاً طريقه الشعري إلى آفاقٍ واسعةٍ، حتى أصبحتْ تجربته الشعرية مثار اهتمام النقاد والدارسين، فتناولت قصائده سبع أطاريح دكتوراه، وأكثر من خمسة وعشرين رسالة ماجستير في جامعات عراقية وعربية وأجنبية، وتُرجم شعره إلى لغات عديدة. ودعُي لقراءة شعرية في العديد من المهرجانات الشعرية في أنحاء كثيرة من العالم.
كان قد عمل في مجال الصحافة محرراً ثقافياً لسنوات، ثم مسؤولاً للقسم الثقافي، ثم رئيس تحرير لإحدى المجلات الثقافية لعددين استقال بعدهما.. وواصل مشواره الشعرية غير ملتفتٍ لسواه، مكرساً كلَّ جهده لأطول عملين شعرين في تاريخ القصيدة العربية وربما العالمية، ألا وهما: “نشيدُ أوروك” و”نَرْدُ النَصِّ” الذي صدر قبل أيامٍ قلائل، ورغم إقامته الطويلة في مالمو السويدية، ثم العاصمة البريطانية لندن، إلّا أن روحه وشعره ما زالا يخفقان تحت نصب الحرية؛ ديوانه الأول.. كان لـ”العالم الجديد” معه هذه الوقفة:
* كيف كانت بداية الصائغ الشاعر؟
– ربما تكون بداية مختلفة قليلاً عن سياقات البدايات المعروفة لأغلب الشعراء هنا أو هناك، لا لشيء إلا لكمية الحزن واليتم والحرمان التي سقطت على رأس الطفل الصغير الذي كنته في بيتنا الصغير المُؤجّر على ضفاف نهر الكوفة، ولفقداني فيما بعد للكثير من أصدقائي وأحلامي في الحروب والأقبية والشتات.
“لا أحتاجُ إلى حِبْرٍ
لكتابةِ تاريخي
بلْ إلى دموع”
وكأغلب الشعراء وغيرهم الذين بدأوا “يقرمزون” الشعر في سن الصبا، سارحين مع الطبيعة والتخيّلات الأولى، مترنّمين بقصائد الغزل لعيون حبيبة او لحلم سادرٍ أو لوهم عابر. غير أنني سرعان ما تخطَّيتُ هذه الفراديس المغرية، ووجدتُ نفسي مسمَّراً أمام والدي المسجَّى على فراش مرضه، لأكتب قصيدتي الأولى، ولأجدَ أول قارئة لها هي أمي ودموعها.
لماذا وأنتَ شاعر عراقي وعربي، مقيم منذ عقودِ في الغربة؟
– كانت غربتي عن وطني اضطرارية. لم يكن يخطر لي على بال ومآل أنني سأمضي ردحاً شاسعاً من حياتي، بعيداً عن ضفاف الفرات ودجلة ومرابع الصبا وأصدقائي وجسر الكوفة ونصب الحرية وشارع المتنبي.
“لي بظلِّ النخيلِ بلادٌ مسوّرةٌ بالبنادق
كيف الوصولُ إليها
وقد بعد الدربُ ما بيننا والعتابْ
وكيف أرى الصَحْبَ
مَنْ غُيّبوا في الزنازين
أو كرّشوا في الموازين
أو سُلّموا للترابْ
إنَّها محنةٌ – بعد عشرين –
أنْ تُبْصِرَ الجسرَ غيرَ الذي قد عبرتَ
السماواتِ غيرَ السماواتِ
والناسَ مسكونةً بالغيابْ”.
هل هناك عودة إلى العراق في تفكير وحلم الصائغ؟
– أتمنى أنْ لا أعيدَ – ولا يعيد الشعراءُ المنفيّون الكثر اليوم- بيتَ شاعرنا الصافي النجفي وهو يشدو بانكسارٍ وغصّة، فاقداً بصره في أُخريات أيامه:
يا عودة للدار ما أقساها
أسمعُ بغداد ولا أراها
إنَّ حلم كل منفيٍّ عن وطنه أن يلقى برأسه المتعب على وسادة وطنيه ويغفو إلى الأبد، كأنه إعادة حلم شاعرنا أمرئ القيس:
وقد طَوَّفتُ في الآفاقِ حتى رضيتُ منَ الغَنيمَةِ بِالإِيابِ
وقد قلتُ في قصيدة لي بعنوان “مطرٌ؛ بلندن”:
“متى يعود المتعبون من الشتاتِ!؟
متى أرى أغصانَ دجلةَ يستظلُّ بفيئها العشّاقُ؟..
هل يومٌ يمرُّ بلا رصاص؟..
……
هل مطرٌ بلندن؟..
هل أسيرُ لآخر المشوار؟….
– يا بغداد –
أم يوماً أعود!؟…”
* كيف كانت تجربتك في مجال التحرير الصحفي؟
– قذفتني المقادير في أطول وأشرس حرب شهدتها نهايات قرننا المنصرم (1980-1988)، جنديَ احتياط بين الخنادق والسواتر البعيدةِ المميتة، لأجدني في نهايات أعوامها (86-88) منتدباً إلى مجلة حراس الوطن بمعية عدد رائع من الأدباء والفنانين منهم ضرغام هاشم وعلي المندلاوي ورعد عبد القادر وسلام الشماع وآخرين. لأخوض – في القسم الثقافي – حواراتٍ ثقافية عميقة وصافية، بعيداً عن لغة الرصاص الإجبارية التي كانت تعمُّ كل شيء: الأخبار والأفكارَ والسطور والأحلام. لألتقي مع ألمع نجوم الثقافة العراقية والعربية، منهم: فؤاد التكرلي وعبد الرحمن طهمازي ومحمد خضير وجبرا وعبد الخالق الركابي ورافع الناصري وصلاح القصب ولطفية الدليمي، ود. علي جواد الطاهر ورشدي العامل؛ (وقد فاز حواري مع العامل بالجائزة الأولى، في مسابقة نقابة الصحفيين العراقيين، عام 1988 وكان بعنوان: الشاعر رشدي العامل؛ قصيدة تمشي على عكّازتين). ترافقني في أغلب حواراتي ريشة الفنان المندلاوي الذي كان يبدع في تصوير وترجمة تلك الشخصيات.
وبعد تسرّحي من الجيش عملتُ في مجلة الطليعة الأدبية ثم نادي الكتاب ومجلة أسفار. ثم حين غادرتُ الوطن عام 1933. عملتُ في صحيفة “أخر خبر” في عمَّان، وصحفاً أخرى في بيروت.. ثم وجدتُ نفسي – حين وصلتُ منفاي السويدي عام 1996، والبريطاني عام 2004، ولليوم؛ متفرِّغا كلياً للشعر. ومن المؤمل أن تصدر هذه الحوارات الخمسون، قريباً في كتاب واحد تحت عنوان: “مبدعون، حاورتهم”.
ماذا وراء كتابة ديوانك الشعري “انتظريني تحت نصب الحرية”؟ ولماذا هذا العنوان؟
– كان هذا هو ديواني الأول الذي صدر في بغداد عام 1984، وكأنه نبوءة لمواعيد الأمل والثورة تحت هذا النصب الخالد على مدى الحقب والتغيرات الخطيرة اللاحقة، وصولاً إلى انتفاضات تشرين وما تلاها.. ولأن الحرية شرط الإبداع كما ذهب جان بول سارتر، كان شرط القصائد أن تتنفس حريتها رغم كل الظروف والأعاصير والدخان، وتتحدى مقصّات الرقيب، وتقفز على أسيجة كل الممنوعات، وما أكثرها في زمن النظام البائد، وإلى اليوم..
كيف واصلت كتابة الشعر وأنت في خضم سنوات الحرب والموت؟
– منذُ بداياتي كنتُ أؤمن على الدوام أن القصيدة هي دريئتي في سنوات الرصاص والشتات معاً.. وهي ملجأي ومتكأي في كل الأزمنة الصعبة.
أي أعمالك الإبداعية حصلت على جوائز، وأيها تعتبرها الأكثر نجاحاً؟
– قصيدتي “خرجتُ من الحربِ سهواً” فازت بالجائزة الأولى في مسابقة نادي الكتاب الكبرى، في العراق عام 1992، ونُشرتْ في مجلة “الأقلام”.
وحصلت أعمالي الشعرية على بعض الجوائز منها: جائزة هيلمان هاميت العالمية Hellman-Hammet International Poetry Award للإبداع وحرية التعبير- عام 1996 في نيويورك. وجائزة مهرجان الشِعر العالميThe Rotterdam International Poetry Award عام 1997 في روتردام. والجائزة السنوية لإتحاد الكتاب السويديين – فرع الجنوبFörfattarcentrum Syd, Sverige ، للعام 2005 في مالمو.
أما أيها الأكثر نجاحاً، فهذا متروك للنقاد وللقراء وللزمن أيضاً.
ماذا عن عملك الأخير (نرد النص) الذي صدر مطلع العام 2022، وماذا يعني لك؟
– بعد أن أخذني “نشيد أوروك” في رحلة طالت حوالي 12 عاماً (1984 – 1996) من بغداد إلى بيروت، وجدتُ النرد يأخذني هذه المرّة في رحلةٍ أغرب وأعمق وأجرأ وأطول، تجاوزت الـ 25 عاماً (1996 – 2022 من بيروت إلى لندن). وهو يتقلّب معي ويقلبني في متون وهوامش التاريخ والأساطير والدين والتراث والسياسية والسِيَر والمدن والفلكلور والغامض من الأشياء وغير ذلك.
إنه حرثٌ في المسكوت عنه. والمسكوت عنه في ماضينا وحاضرنا كثيرٌ ومثيرٌ وخطيرٌ، ما أن تفتحه حتى تنهار وتنهال عليك أعمدة من الرمل والوهم والدخان، ظلّتْ تحمل لقرون صروحاً متشابكة من القناعات، دون أن تجد من يهزّها أو يحاججها أو يسائلها في الأقل.
أو قلْ إنه بانوراما شاسعة بـ 1380 صفحة، تدور بك في الاتجاهات كلها، لتريك المشهدَ بأوسع انزياحاته وترسّباته معاً، وبمختلف أشكاله وتقلباته وطيوفه وتأويلاته. لتترك لك أن ترى وتفكر وتتدبر الذي أمامَك وخلفكَ. ولك بعدها أن ترجع خالي الوفاض من تلك الرحلة، أو قد تمسك بشيءٍ مما لمْ يخطر لك ولي ببال وحالْ.