منذ الملاحم والشعر العربي القديم، مروراً بعصوره المتعاقبة، حتى عصره الحديث، وللسرد مكانة متصاعدة في بنية النص الشعري. فقد فرضت الظاهرة القصصية نفسها بقوة، بوصفها شكلاً من أشكال التعبير عن الذات، ومجالاً لتمثيل الوقائع الاجتماعية أو نسج وقائع على غرارها، ونمطاً مهماً من أنماط التخييل في صناعة عوالم الأدب.
ولم تتخلّف الذات الشاعرة عن الاندراج تحت هذه الكلّية، فكان من مميزات النص الشعري الحديث أنه تمثّل فنون أخرى عديدة، أكثر من سوابقه، وقام بتوظيف تقنياتها وترميزاتها، انطلاقاً من كونه نصّ فكرة أكثر منه نصّ صورة. وكان السرد من بين فنون القول التي تَمَثلها؛ لتوسيع مدركات فضاءاته الشعرية، والدخول إلى مناطق تجريب حديثة يولدها هذا التوظيف، فضلاً عن خلق أجواء مشوّقة وجاذبة للقارئ هي مما ينتجه الفعل الدرامي للسرد، بعد أن اعتُمِد كثيراً كبنية منظّمة لتشكيل معمار النصوص الشعرية، أو النصوص النثرية التي تفيض بلغة الشعر.
في نماذج شعرية حديثة كثيرة يمكن القبض على العديد من المقاطع التي تقدم لقطات حكائية، وتؤكد نزعة النص الشعري نحو السرد، والتصاقه الشديد به. حيث يعمد الكثير من الشعراء، في نصوصهم، إلى ترتيب الأفعال المنتجة حكائياً لبناء جمل سردية، ستشكل في أحيان كثيرة ـ لو اقتطعناها من سياقها ـ نصوصاً قصصية قصيرة جداً، أو بتعبير أقرب إلى أجواء الشعر «ومضات قصصية»… مازجين ذلك بنبرة شعرية عالية، ما هي إلا صدى للمفردات والتراكيب المشعّة، والنسيج اللفظي الإيحائي الذي تتسم به النصوص الشعرية.
في نصوص أخرى، يبرز السرد محوراً مهماً، تدور حوله اللغة المكثّفة والصور الشعرية، لكنه سرد قد يتجاهل المكان والزمان الواقعيّين، بوصفهما هوية نصيّة يمكن الركون إليها، لذا تعمد بعض النصوص إلى خلق فضائها الداخلي البديل، والذي لا يتجاوز ممكنات اللغة، لإنتاج أمكنة وأزمنة افتراضية، مُحيلةً المتلقي إلى مركزية الذات، كونها نقطة الانطلاق باتجاه الموضوعات التي تعالجها. وقد تتشارك هذه الذات ذاتاً مرآوية أخرى في صناعة الحدث، بهدف خلخلة المستويات الدلالية للسرد وتوسيع المرامي الشعرية للمتن.
النبرة الحكائية في الشعر تُؤثث، تخييليّاً، قناةً للتواصل مع المتلقي، فهي تستفزه لكي يترقب ما تفرزه فاعلية السرد في النص. فهذه النبرة تقترب كثيراً من أحد جوانب الواقع المحكي، حيث أن الإنسان يعتاش، سماعياً، على رواية الحدث، وانتظار المشوّق منه.
اللغة الشعرية لها خاصية مطاطة، تتسع باتساع القراءات والتأويلات والخيال القارئ. وفي النص الشعري تتسع سلطة المتلقي كثيراً، ويكون هامش تصرفه كبيراً لإعادة تشكيل مداليله ومقصدياته. وهذه الخاصية تنسحب على السرد في غضون النص، إذ لا تكتفي القصة الشعرية ـ إن جاز التعبير ـ بمنطوقها، بل تعتمد على القارئ لرسم بقية مجرياتها المحذوفة، في ما يمكن الاصطلاح عليه بـ «بلاغة الحذف».
فاعلية السرد في النصوص الشعرية يمكن لها أن تحقق صدعاً في حدود أسلوبية التعبير الشعري داخلها، لتبلغ بها مناطق تعبير جديدة، تآزرت فيها جماليات الحدث السردي ومحسّنات اللغة الشعرية، لمدّ جسور جديدة مع قارئ يجيد سبر ما وراء النصوص.
alidawwd@yahoo.com