الشيعة ورمز المظلومية

كان السوريون في دمشق، أيام النظام العراقي السابق، يعرفون العراقيين الشيعة عند صلاتهم فقط، فهم لا يعرفونهم من لهجاتهم، ولا من سحناتهم، ولا أي شيء آخر يؤشر انتماءهم الطائفي. حتى أنك حين تتحدث إلى سوري قبل سقوط النظام السابق عام 2003، كان من الصعب عليه أن يفهمك ببساطة، فتضطر إلى محادثته بلهجة مصرية مطعمة باللهجة الشامية، الأمر الذي يزيد حالة الضحك المحبب عند الشوام المتأنقين ليصل حد القهقهة. 

وكانت وقتها، \”التربة\”، التي يضع الشيعة جباههم عليها عند السجود في أثناء الصلاة في الجوامع، هويّة الشيعي. وكانت الأقاويل التي تشاع عن هذه \”التربة\” لا تخلو من الفنطازيا والتهويل والسخرية، لكن هذا لا يهمّ، كنا نصلي عليها حينها، ونأخذها في جيوبنا إلى الجوامع، ولن يمنعك أحد بطبيعة الحال، من الصلاة عليها، لكنك ستسمع همساً عنها.

كانت \”التربة\”، للحظة ما، تذكرنا بالمظلومية التي أحاطت الشيعة إبان النظام السابق. الجميع كان محمّلاً بحقد على ذلك النظام. منا من كان حاقداً بسبب الانتفاضة التي أُجهِضَت، وآخر كان متحاملاً على قتل الصَدرَيْن، واقلنا حقداً كان بسبب تجفيف الأهوار والفقر والمرض الذي انتشر في التسعينيات دون أن تكلف الحكومة نفسها مشقة البحث عن معالجات جذرية.

كل من كان في دمشق آنذاك، كان يحمل بجعبته قصصاً عن الحصار والنظام الذي جفف الطبقة الوسطى وأفقر عائلات غنيّة، وصنع طبقة أغنياء من الرعاع. 

كل منا يحلم أن زوال النظام السابق يعني أن العراق الجديد سيكون عراقاً ديمقراطياً، وسننعم بحقنا بالحصول على منازل ووظائف وعيش كريم وسفرات لعواصم العالم تبدأ دون أن تنتهي، يحلم أن يكون جواز سفره محطّ احترام في مطارات العالم جميعها.

بعضنا، نحن الشبّان الذين لم نتجاوزالاربعة عشر ربيعاً من عمرنا آنذاك، وأنا منهم، ينتمي إلى عائلات يسارية تتحاشى الحديث عن تهميش الشيعة ومظلوميتهم والسنة واستئثارهم بالسلطة، ويعتبرون أن الجميع ضحيّة النظام وليس الشيعة فحسب، لكن كلامهم وقتها، مقابل الكلام الذي نسمعه في الحوزات المنتشرة حول مقام السيدة زينب والحسينيات والجوامع ومكاتب رجال الدين الشيعة لم يكن يعني إلا إبرة في كومة قش الطائفية السياسية.

كرّت سبحة الذكريات هذه بعد أن قرأت منشوراً على \”فايسبوك\” للصديق الفوتوغرافي علي الفهداوي، وهو يتحدّث عن شرائه \”تربة\” وبعد أن سجد عليها تهشمّت، وكتب \”لازم هاي التربة هم لاحها الفساد الاداري\”.

بعد سقوط النظام، جاء السياسيون الشيعة جميعهم حاملين \”التربة\” أيقونة \”المظلومية\”، وأخذ يشهرها بمناسبة ومن غيرها، حتّى وصل الأمر ببعضنا للجزم أن هؤلاء لا يحملون أفكاراً وبرامج، لكنهم يمتلكون التربة، وهم ليسوا جديرين بقيادة البلد، وهم أصلح للمعارضة من الحكم. 

لا يلومن أحد هذا التفكير، فهؤلاء \”التربيون\” لم يصنعوا شيئاً يجعلهم موضع اهتمام، هم لا يمتلكون غير المظلومية والخلاف بشأن حجمها. 

لم يدرك هؤلاء أن زمن المظلومية والصراخ بشأنها ولّى وانتهى، وصار من الواجب أن يعملوا على مغادرة هذه المظلومية، وأن يؤسسوا لبلدٍ لا يُظلم فيه أحد، وأن لا يشعر بما شعروا بهِ يوماً. أن يحققوا ما وعدوا به في المنافي، وأن يضعوا الثروات في مكانها، وليس لبناء القصور كما كان يفعل سلفهم ويدينون ما فعل في خطب الجوامع والحسينيات. وأن يجعلوا من أولادهم قدوة، وليس كما فعل سلفهم حين طغى أولاده على الناس.

بعد أكثر من 12 عاماً، أصبحت \”التربة\” مغشوشة وتهشمّت. الفساد وصل إلى \”التربة\” وهم حولوها –وللأسف- رمزاً للفساد.

حوّل هؤلاء رمزاً من المظلومية الى الفساد، فإلى ماذا سيحول هؤلاء، البلاد، لو استمروا بسياسات الفساد؟

إقرأ أيضا