تملّكه القلق لليلة كاملة، فكّر خلالها كثيرا قبل أن يقدم على فتح هاتف ابنته المراهقة، أفكار كثيرة وقاسية مرت أمامه، فكانت خشيته من مشاهدته لأمر قد يصدمه ويدفعه لفعلٍ متهور قد يندم عليه لاحقا، لكن صدمته في النهاية كانت مختلفة.
لغة كورية جنوبية، وشخصيات ومجموعات خاصة بالدولة الآسيوية، هذا ما وجده الأب الأربعيني في هاتف ابنته ذات الـ16 ربيعا، أخذ يترجم ما تقع عليه عينه، ليعثر على محادثات لابنته مع أشخاص، لا يعرف إن كانوا من كوريا الجنوبية فعلا أم من المتشبهين بهم، كون حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، ضمت أصدقاء ومجموعات أغلبها ذات طابع كوري.
تملكت الحيرة الأب علي عبدالله (42 عاما)، وبات لا يعلم كيف يتصرف، فهو لم يجد ما كان يخشاه، من الدخول في علاقة سرية مع شاب، أو التورط بمواد إباحية أو غير ذلك من الأمور المشابهة، لكن ما وجده كان أمرا جديدا لا يعرف التعامل معه: “حاولت أن أتمالك نفسي قبل أن أقرر التحدث معها”، هكذا بدأ عبدالله حديثه.
ويقول عبدالله في حديثه لـ”العالم الجديد”، إن “ابنتي منذ أشهر طويلة بدأت تتغير في لبسها وقصة شعرها، واتجهت لارتداء اللون الأسود مع تنورة فضفاضة، لكن لم أعر للأمر أي أهمية، وتوقعت أنها موضة معينة، خاصة وأنها مراهقة”.
“بعد فترة بدأت ابنتي تنعزل، وترفض التواجد معنا، أنا ووالدتها وشقيقها الأصغر، كما كانت ترفض الخروج معنا عندما نذهب كعائلة لأي مكان، كان همها الأول هو هاتفها، لا تفارقه على الإطلاق، وهنا بدأ الأمر يثير استغرابي وشكوكي، وحاولت أن أتحدث معها لأكثر من مرة، خاصة وأن مستواها في الدراسة بدأ يتراجع بعد أن كانت من المتفوقات”، يكمل عبدالله سرد بداية الحكاية.
ويتابع “بعد قرابة 5 أشهر من وضعها الغريب، طلبت منها أن تسلمني هاتفها لأعرف مع من تتحدث، لكنها رفضت”، مكملا حديثه بألم “بعد أن رفضت اتجهت إلى الأسلوب الآخر وأخذته بالقوة منها، رغم أني لم استخدم هذا الأسلوب مع أولادي، وبعد صراخي عليها أعطتني الرمز السري لهاتفها، وكانت مصدومة من أسلوبي في حينها وخائفة”.
ويكمل: “بعد أن اكتشفت ما يوجد في هاتفها، وعلاقتها بأشخاص من كوريا أو متشبهين بهم، ذهبت للتحدث معها حول سن المراهقة، وعن المجتمعات الأخرى وكيف تختلف عنا في بعض الأمور، وعلينا أن نأخذ المفيد منها ونترك جوانب كثيرة لا علاقة لها بحياتنا وثقافتنا”.
“بعدما جرى، لم تتحدث معي ابنتي لفترة، فقد كنت أحتفظ بهاتفها ورفضت إعادته إليها، وأصررت على أن تعود للتركيز على دراستها، لكنها أخذت بالابتعاد عني بعد أن كانت قريبة جدا في السابق”، بهذه الكلمات بدأت قصة الأب المهموم من النهاية، حيث يختم حديثه بالقول: “بعد إلحاح زوجتي، وافقت على إعادة الهاتف النقال لابنتي، لكني طلبت من زوجتي مراقبتها وعدم تركها تتصرف كما تشاء”.
وخلال السنوات الأخيرة، دخلت الثقافة الكورية (الجنوبية) إلى عقول الشباب والمراهقين في العراق، وخاصة من خلال الدراما والأغاني مثل “K-pop”، حيث لا تزال هذه النتاجات الفنية تحقق نجاحا لافتا على الساحة الفنية العالمية، وأصبح البوب الكوري منافسا عالميا خاصة مع الفريق الأكثر شهرة وشعبية “BTS”، وفرقة “BLACK PINK” للفتيات.
وإلى جانب هذه الفرق، فإن “الأنميشين” المعروف اختصارا بـ”الأنمي الكوري”، أصبح صاحب أكبر تأثير في المراهقين، الذين يتابعون حلقاته الممتدة إلى المئات بدقة ويحفظون كافة أسماء الشخصيات وطبيعة كل شخصية، حتى تحول الأمر إلى استخدام مواقف الأنمي وشخصياته في المحادثات، سواء بالأمثلة أو المزاح، حتى باتت تستخدم في الأحاديث الجادة والمشاكل فيما بينهم.
كما باتت حياة أعضاء الفرق الكورية، الأكثر رصدا من قبل المعجبين المراهقين، حيث يلاحقون حياتهم الشخصية وظهورهم في أي مكان ويتداولون مواقفهم وما يتعرضون له، ومن ثم بدأ الأمر يتحول إلى هوس، عبر تقليد قصات شعرهم وملابسهم، وما ساعد على هذا الأمر، وفي بغداد تحديدا، هو وجود محال خاصة ببيع الإكسسوارات والدمى والملابس الخاصة بهذه الفرق.
في منطقة المنصور غربي العاصمة، تضم أغلب مراكز التسوق الكبيرة “المولات”، محالا تبيع هذه الأمور الخاصة بالكوريين، ويوجد مركز تسوق، ينظم مهرجانات خاصة بمتابعة الفرق الكورية والأنميشين.
ويشير محمد كامل (36 عاما)، وهو صاحب محل لبيع هذه المستلزمات في منطقة المنصور، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إلى أن “رواد المحل هم من فئات مختلفة من المراهقين، فتجارتي تعتمد بالدرجة الأساس على الاكسسوارات الخاصة بالفرق الكورية، وهذه تنجذب لها الفتيات كثيرا، أما الأولاد فيحبذون الأنمي أكثر”.
ويتابع أن “الفرق المفضلة لدى الفتيات هي Black Pink وBTS ، لذا يحاولن الحصول على صور أعضاء الفرقة ونسخة من ملابسهم”، معبرا عن تفاجئه من “تفاعل الفتيات حين يشاهدن صور أعضاء هذه الفرق”.
ويلفت إلى أن “طريقة تعامل الفتيات مع الصور غريبة، فهن يندهشن بشكل كبير، خاصة وأن أغلبهن يرتدين نفس ملابس الكوريين”، مضيفا أن “تعامل الأهالي مع الموضوع مختلف، وكما نشاهد فبعضهم يعتبرون الموضوع اعتياديا ويتركون الحرية لبناتهم ويأتون معهن لشراء هذه الصور، والبعض الآخر يرفض الأمر”.
يشار إلى أن تهنئة المطرب الكوري الجنوبي جونغ كوك بعيد ميلاده قبل عامين، تصدرت مواقع التواصل الاجتماعي، وجاء هاشتاغ #HappyBirthdayJungkook ليحصل على أكبر عدد من المغردين فيه في الوطن العربي.
الهروب لكوريا الجنوبية
ويعد كوك، نجم فريق “BTS” أحد الفنانين الكوريين الذين يسببون هوساً بين أعداد متزايدة من الشباب، خصوصاً الذين ما زالوا في السنوات الأولى من سن المراهقة.
وتسببت ظاهرة التأثر بالفرق الكورية، بظهور توجه جديد لدى المراهقين، يضاف لقضية تقليد الملابس واقتناء صورهم، وهو السفر إلى كوريا الجنوبية وتعلم لغتها، وهو ما ترويه مها أحمد (26 عاما)، عن شقيقتها ذات الـ14 عاما، وفيما يراها ذووها بأنها ما زالت صغيرة وطفلة، إلا أنها شكلت مفاجأة لعائلتها.
وتؤكد أحمد، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، “فوجئت مؤخرا، بأن شقيقتي الصغيرة، شاركت منشورا على الفيسبوك يحمل اسم عشاق الكوريين، وطلبت فيه إرشادها عن كيفية الذهاب لكوريا”.
وتتابع “ما شكل لي صدمة، أن أغلب المعلقين من أقرانها طلبوا الطلب ذاته، وكلهم يبحثون عن طريق يصلون من خلاله إلى كوريا، فيما جاءت بعض الردود لتوضح كيفية الحصول على جواز سفر وتأشيرة دخول، ومقدار المال اللازم للرحلة”، مبينة “كان الأمر غريبا وصادما، وحاولنا السيطرة على شقيقتي وإقناعها بترك هذا الهوس، فالأمر بلغ مرحلة غير مقبولة”.
ما السبب؟
وحول أسباب هذا التأثير وهوس المراهقين بهذه الفرق، توضح الباحثة المختصة بعلم النفس، شيماء عبدالعزيز، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “المراهقين دائما ما يبحثون عن قدوة، حتى وإن كانت هذه القدوة غريبة عن ثقافتهم، لذا فإنهم يتطلعون لتقليدهم بالمظهر واللغة وطريقة الكلام”.
وتبين عبدالعزيز، أن “فترة المراهقة، هي فترة انتقالية وسطية، أي مغادرة الطفولة، وهي فترة حرجة، لذا تظهر فيها ازدواجية وعدم ثبات في المشاعر والمواقف، وأيضا في النمو، فيجري تحول بملامح الوجه ونبرة الصوت وغيرها من التغيرات، وهذه كلها لها تأثير، وفيها أيضا يبتعد المراهقون عن الأب والأم أو يتمردوا على أوامرهم”.
وتؤكد أن “المراهقين يبدأون بالبحث عن كيان لهم، لذلك يتمسكون بأي شيء يرونه ويقلدونه لإثبات وجودهم ولفت الأنظار، بالتالي هي مرحلة طبيعية”، مستطردة أن “ظهور الفرق الكورية، أمر غريب، فسابقا لم يكن هناك اطلاع على ثقافة جنوب آسيا، ولم يحصل أي انفتاح عليها وخاصة في العراق، لكن بفعل التكنولوجيا دخلت ثقافات كانت شبه مغلقة سابقا، على عكس الثقافة الأوروبية أو الأمريكية، التي وصلت لكل دول العالم، وهنا ليس من الخطأ الاطلاع على هذه الثقافة لتنمية المواهب، وحتى إذا وصل مرحلة التشبه فيمكن مغادرته دون أن يترك آثارا على شخصية المراهق، فكل ما يتقدم بالعمر يبدأ بأخذ الأمور الجيدة وترك السيئة منها”.
يذكر أن نسب مشاهدة الفرق الكورية، وصلت لنحو 500 مليون للأغنية الواحدة بموقع اليوتيوب، وهو ما لم تحققه أغنية عربية خلال سنوات، ما يذكر بأغنية “كام كام ستايل” الشهيرة التي كسرت حاجز المليار مشاهدة، وأجبرت منصة يوتيوب في حينها على فتح العداد لأعلى من هذا الرقم وهو ما يحصل لأول مرة بتاريخ المنصة.
العرب.. سياسة وتطرف
وعطفا على عدم تمكن أي عمل فني عربي من التأثير بالمراهقين والحصول على هذه النسب العالية من المشاهدات، يعزو الناقد الفني المصري، مصطفى الكيلاني، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، ذلك إلى أسباب كثيرة أبرزها “رأس المال، ففي مصر مثلا لا توجد أموال بهذا الحجم، وبالمقابل فإن رأس المال الخليجي الكبير، تم توجيهه لمنافسة الأعمال المصرية فقط، وليس لدعم عمل عربي مؤثر وراسخ وكبير، وبالتالي خسر الجميع في هذه المعادلة”.
ويضيف الكيلاني “كما أن انشغال المنطقة العربية بالأمور السياسية، وظهور تيارات متشددة في بعض البلدان، أدى إلى مشاكل كبيرة، وبالتالي باتت الدول العربية منشغلة بهذه المشاكل ولم تتفرغ لصناعة الفن”.
وعن الجانب الفني، يرى، أن “عالم الأنمي الذي تنتجه كوريا الجنوبية، بات عالم المراهقين الحالي، مثل ما كانت الرسوم المتحركة الأمريكية عالمنا ونحن صغار، مثل توم وجيري، وهذا يعود إلى أن الكوريين عملوا بشكل كبير على التسويق والترويج”.
ويستطرد “الجيل الجديد شاهد أعمالا بدقة عالية وباستخدام التكنولوجيا، وأفكار جديدة دمجت الحركة والرعب والحب معا، وهو ما جذب اهتمام المراهقين، وهذا الأمر موجود في الدراما الكورية، ومنها مسلسل لعبة الحبار، التي أحدثت ضجة كبيرة في العالم، وتركت أثرا كبيرا”، مؤكدا أن “الكوريين منذ ثمانينيات القرن الماضي بدأوا العمل على مشروع ضخم يهدف لتقديم فنهم للعالم، ليعود لهم بمردود مالي ضخم”.
تعليق السفارة الكورية
ويقول المسؤول الثقافي في السفارة الكورية الجنوبية ببغداد، هون جاي كوان، في حديث لـ”العالم الجديد”، إن “كوريا الجنوبية تنظر باهتمام لتأثر فئة من المجتمع العراقي بثقافتها وبالفن الكوري، وقد فاتحنا وزارة الخارجية الكورية الجنوبية للحصول على موافقات لفتح مجلس ثقافي تابع للسفارة في بغداد”.
ويضيف كوان، أن “الحكومة الكورية تولي اهتماماً كبيراً لموضوع الثقافة والفن”، مبينا أن “أبرز الأعمال الفنية التي أثرت بفئة من الشباب هي فرقة BTS وفلم Parasite ومسلسل Squad Game”.
ويؤكد أن “السفارة الكورية في بغداد لديها 5 برامج ثقافية خلال عام 2023، وفي السنوات السابقة أقامت مهرجانات عدة أبرزها في جامعة بغداد، كما أن هذه المهرجانات تشهد مسابقات، وقد حصل الفائزون على جوائز مختلفة منها سفرة سياحية إلى كوريا أو منحة دراسية إلى إحدى الجامعات الكورية الجنوبية”.
ويشير المسؤول الثقافي في السفارة الكورية الجنوبية ببغداد، إلى أن “الحكومة الكورية الجنوبية توفر منحا للطلبة العراقيين المؤهلين، حيث تدعوهم للدراسة في كوريا بدلاً عن فتح جامعات أو معاهد في العراق، لكي يعيشوا تجربة الدراسة والثقافة بأنفسهم في كوريا الجنوبية”، مستطرداً “لدينا منحة GKS وهي خاصة بالدراسات العليا للماجستير والدكتوراه”.
ويتابع “كما لدينا مهرجان في شهر حزيران يونيو المقبل، باسم Kpop في بغداد، حيث يتضمن مسابقات وتكون جوائزها رحلة إلى كوريا ويدخل مسابقة أخرى هناك”، مبينا أن “لدينا مسابقة كأس السفير وهي مسابقة خاصة برياضة التايكواندو، حيث ستقام للسنة الثالثة على التوالي في العراق ويشارك بها نحو ألف متسابق”.