هو طاووس لا يخلو من طيبة. لا يخلو من زَهوٍ.. هو حق شرعي لجهد قد بُذل ويبذل. له نظرة متفحصة وأصيلة للحياة وما تُعجل به، هكذا أرى المثقف العراقي، سليل ارث يثير حسد الكثيرين.
في بداية التسعينيات، سمح لي المقهى الثقافي بالتواجد بين دكاته بشكل دائم، دون أن أُعلن منجزا. كنت بحلم ينمو بصناعة فيلم سينمائي يوما ما، فقط، وكان رواد هذا المقهى قامات عليا في الثقافة العراقية وفي مختلف مجالات المنتج الثقافي والفني. وبالرغم من سيطرة الشعراء على كل دكة تقريبا؛ فان هذا لم يمنع تواجد شخصيات أسست لمفاهيم جديدة في ماهية المثقف العراقي والخروج عن ثوب المثقف / الشاعر المهيمن.
بالتأكيد كان الكتاب وهو يتجول بين أنامل المثقف العراقي محورا أساسيا في رحلة التثقف والمعرفة؛ وهو كذلك بلا شك. لكني \”المحموم بالسينما\” كنت أطور سؤالاً – لا يزال حر الحركة – بداخلي: أين السينما من الثقافة العراقية؟ لأعيد صياغة السؤال بدقة أكبر أبتغيها: أين المثقف العراقي من السينما؟ كنت أنصت وبُعدة التلميذ لكل ما يجول في خاطر المثقف العراقي، صراع أزلي في شكل القصيدة، وانحياز طائفي لقصيدة النثر. النقد الحديث ومفاتيحه المستلة من دريدا وفوكو وتشومسكي وسعيد.. أسماء هي نجوم في سماء المعرفة الإنسانية، لا غبار على هذا. لكن أين السينما؟
باستثناء من كان مختصا ـ ناقدا سينمائيا ـ أو أكاديميا ـ طالب دراسات عليا سينما ـ كانت السينما بجل إنتاجها العابث بإرث السرد العالمي، وبجل ثورتها التقنية والرؤيوية تقرفص مهملة في ركن المقهى الثقافي العراقي، لا أحد يكترث لها ولا إلى ما وصلت إليه! هكذا كنت أشعر، وهكذا كنت أدون. وإذا ما تم تناول أي موضوع يخص السينما فهو بالضرورة مؤسس على ما تم نشره في الأدبيات العربية على ندرتها! حوارات سطحية عن سينما \”بيرغمان\” و\”بازوليني\” وغيرهم من قامات السينما الكلاسيكية بُنيت بالكامل على آراء نقدية دونت سلفا في تلك الدوريات، أما فعل المشاهدة فكان قد تأجل ولأسباب كثيرة، أهمها ندرة الفيلم الجيد المترجم إلى العربية، وكسل المثقف العراقي تجاه تناول السينما كفعل ثقافي مركزي لا يقل ضرورة، إن لم يكن أكثر أهمية، من فعلي القراءة والتدوين.
وبغض النظر عن المعيار المنتج من رحلة البحث في الحداثة وما بعدها، فان المثقف العراقي، بشكل عام، يستثني السينما من نتائج فهمه للمعيار المنتج! أصبح لتلقي قصيدة، أي قصيدة كانت، ومن أي مكان أتت معيار متماسك يخطئ قليلا ويصيب كثيرا، كذلك في اللوحة والمسرح والرواية. لكن إزاء المنتج السينمائي نراقب نكوصا حادا في ذلك المعيار، يصل أحياناً كثيرة إلى ردة: السينما أولا \”سالوفة\”.. هو نكوص في المعيار لا أفهمه إلى هذه اللحظة.
كنت وقتها لم أغادر العراق بعد. كنت كأي أحد من عائلة جيلي، نفترش فرشة التسعينيات القاسية، ونحاول أن نقنع أنفسنا أننا في \”سفرة\” معرفية. وكنت أحاول التخفيف عن لوم من هو من جيلي ومن سبقنا: كون شريط السينما لم يتوفر بالشكل الذي كان قد توفر فيه كتاب أو مصدر. لكني صُعقت من \”الأُمية\” السينمائية لمثقف عراقي كان قد عاد إلى الوطن بعد ٢٠٠٣. جلهم كانوا في بلدان؛ السينما فيها زاد يومي، والاطلاع على المنجز السينمائي في تلك البقاع أقل تكلفة من ثمن فنجان قهوة في مقهى. ما الذي منع ـ ويمنع ـ مثقفا يشرب المعرفة والجمال بشكل يومي، ودون أن يكون ذلك بالضرورة تلبية لضرورات مهنة أو ما شابه؟، ما الذي يمنعه من أن يُدرك أنّ ما يحدث في السينما لا يقل شراسة عن أي معترك أدبي أو تشكيلي أو موسيقي؟ ذات الأسماء الكلاسيكية، وذات المراجع التي كانت قد اصفرت أوراقها بعد أن اصفرت الأفكار التي تنطق بها. لا جديد. ثرثرة خجلة فقط في كون: \”نعم.. نعم.. السينما فن الصورة\” تليها محاولة لتغيير الموضوع بعد تلك الجملة.
إصراري الشخصي على فهم السينما عبر الشعر انتهى إلى أني الآن أفهم الشعر عبر السينما، نمو وتطور مرتبط بمقدار كم من \”ثورة\” بداخلك! كم أنت ترفض \”المكرود\” بداخلك وتُصر على أن السينما غيرت كل شيء منذ النصف الثاني من القرن المنصرم وإلى الآن.
إنه الطاووس. المتبختر. الذي لو التفت لحظة إلى الخلف لوجد أن ذيله لم ينبت بعد. وأقصد سينمائيا.