منذ أن بدأت القاعدة عملها بشكل رسمي في بلاد الرافدين، وبدأت تبث تسجيلاتها المصورة لعملياتها الدموية ضد العراقيين، أو تتبنى مسؤوليتها للقتل اليومي ضد من كانت تسميهم بالحرس الوثني (الوطني) كانت هناك أصوات تلقي باللوم دائما على العراقيين، وتحاول تحميلهم مسؤولية ما تقوم به القاعدة، وبدلا من ضرب تنظيم القاعدة مباشرة كانت هناك دعوات لضرب ما سمي وقتها بـ \”حواضن الإرهاب\”، وكانت الأنبار وغيرها من مناطق عمليات التنظيم تتهم بأنها حواضن، إذ لا يمكن للإفغان والسعوديين والمصريين والمغاربة العرب أن يتحركوا بسهولة لتنفيذ إرادة القاعدة ما لم يكن هناك في العراق من يؤويهم وينصرهم ويزوجهم ويدعم تحركاتهم لوجستيا.
هذه النظرة الرسمية البالغة الخطورة في مجازفتها في استعداء شعبها، إذ ليس من الحكمة أن تتهم شعبك رسميا بكونه يشكل حاضنة للإرهاب لما تنطوي عليه هذه التهمة من الاستخفاف بوطنية المواطنين دون تحديدهم أو دون إمساكهم بالجرم المشهود، إلا أن تثقيف الشعب بمفهوم \”الحاضنة\” يبدو ضروريا ما لم يتضمن هذا التصريح معاقبة جماعية للمنطقة \”البيئة\” التي نفذ الإرهاب فيها عملياته، بحيث يتم اعتقال الأبرياء الذين تعرضت منطقتهم للإرهاب بحجة أنهم مساهمون في تسهيل عمل العناصر الإرهابية.
البيئة الحاضنة أحد المفاهيم الأساسية في تفسير تنفيذ أي عملية إرهابية أو عمل إجرامي، بل وأي تصرف كان قانونيا أم غير قانوني، فهي بلا شك عنصر مساعد في معادلة التنفيذ، إلا أن التعبير يحمل في طياته تبرئة للمسؤولين في إدارة الدولة وحفظ النظام العام، حيث يستثنى من اللوم في تنفيذ الجريمة في مكان ما القادة الأمنيين ويلام الشعب المستهدف على أنه شكل بيئة حاضنة استطاع الارهاب من خلالها أن يقوم بعملياته، وهذه ببساطة قسمة ظيزى كما يقال.
في بلدان العالم المتحضر يبدو المسؤول الأمني هو المسؤول عن أي خرق، وبمجرد وقوع الجريمة في دائرة مسؤولياته يقدم استقالته اعتذارا للشعب عن فشله في تأدية واجبه تجاهه، ليكون الشرف المهني أغلى بكثير من أن يتخلى عنه أمام راتب شهري يمكن أن يحصل على مثله في مكان آخر. أما في العراق فلا ترابط بين كثرة التفجيرات وكثرة الاستقالات، فالوجوه الأمنية هي هي منذ أن بدأت العمليات الإرهابية في بلاد ما بين النهرين، ونادرا ما استقال أو أقيل أحدهم، ولهذا يمكن أن ننعى الشرف الأمني في العراق بسهولة، وبأسف أيضا.
ليس الإرهاب وحده ما يحتاج إلى بيئة حاضنة تساعد في انتشاره وتسهل عمله، وتغذي جذوره وتنضج ثماره تماما مثل التربة الخصبة للنبات، بل إن جرائم الفساد (وهي أخطر من الإرهاب) تحتاج هي الأخرى إلى بيئة خصبة حاضنة، ومثلما يمكن لوم المسؤول الأمني عن الخرق الأمني، يلام المسؤول الإداري عن الفساد الإداري.
وحيث يبدو الفساد الإداري مستشريا في العراق بشكل قل نظيره في بلدان أخرى، بل لعل حدوث عمليات الفساد يفوق آلاف المرات حدوث العمليات الإرهابية لا من حيث عدد المتضررين من عمليات الفساد المالي والإداري وحسب، بل من حيث حجم الضرر الذي يتركه الفساد على المواطنين وعلى مستوى حياتهم ومستقبلهم المادي والمعنوي.
فهل يمكن القول أن العراق وقد صار بيئة حاضنة للإهاب صار أيضا بيئة حاضنة للفساد، تساعد على تحقيقه دون رفض، وتعين على نموه دون اعتراض، وربما تشارك في انتشاره عمدا أو دون قصد. قد تكون كلمة (نعم) كبيرة هنا، إلا أن فكرة أن يكون الشعب هو نفسه مصْدر الفساد وموْرده، ومصدِّرا للفساد ومستورده، ومنتجا للفساد ومستهلكه، تبدو فكرة غريبة تشبه إلى حد بعيد قولهم: هذه بضاعتنا ردت إلينا، إن لم نقل ما هو أبلغ منها.