الخلية الحية أساس الجسد الحي، ومثلما تشكل الخلايا البنيةَ الحية لاي نظام في الجسد الحيواني يمكن أن نعتبر المؤسستين المدنية والرسمية هما التشكيل الحي الأول في بناء أي أمة أو كيان دولة. ولأننا لا يهون علينا أن نعلن موت العراق، ولا نريد أن نقر بأن الكيان ـ الوطن، الذي ننتمي إليه ونحمل لغته ومأكله ومآسيه ميت بالفعل لا بالشعر، فإننا نتوقف عن الحديث، وربما نمتنع عن إلقاء النظرة الأخيرة على جسد العراق.
بهذا المقياس الحيوي وضمن عدم وجود أي مؤسسة عراقية يبدو العراق اليوم بلداً ميتا، إذ لا وجود لمؤسسة رسمية يمكن أن يعتد بها، أو يعتمد عليها، حتى أن الجامعة العراقية الرسمية لا ضوابط لها، ولا نظام واضح ينظم عملها، بحيث لا يعرف حتى من المسؤول عن وضع المناهج الدراسية، ومراقبتها، وتحديثها، ولقد أدهشني وقت الامتحانات الجامعية الماضية كتاب باللغة الإنكليزية (بيد طالب جامعي ركب إلى جانبي في سيارة أجرة) تعتمده إحدى الكليات الرسمية لمؤلف عراقي، يتحدث فيه عن \”الحسن والقبح\” ويحاول أن يرد القوانين \”الوضعية\” إلى هذا المبدأ الكلامي الحوزوي، \”إن صح التعبير\”… إنها فوضى الحواس، واضطراب المفاهيم، ولعل هذا الكتاب سيسحب قريبا من أيدي الطلاب إذ لا يعرف أحد بما بين أيدي طلاب الجامعات سواء حضر الكتاب أو غاب. إنها قرارات فردية للتدريسيين، وهم يتحكمون بمصير ما ينبغي أن تكون (أم المؤسسات) ـ المؤسسة الجامعية.
هناك رغبة فطرية لدى المجتمعات الحية في العمل الجماعي (الفِرقي) وفي تقديمه على العمل الفردي، وعلى هذا تتأسس المنظمات، أو الاتحادات، أو النقابات، أو الجمعيات، أو غيرها من المؤسسات المدنية التي تعنى بشتى مجالات الحياة المدنية، حتى لا تبقى زاوية في المجتمع دون وجود مؤسسة ترعاها وتتكفل بضخ الدم والهواء إليها، إنها المؤسسات المدنية التي توازي في انتشارها وعملها انتشار وعمل الخلايا الحية في الجسد البشري، وارتباطها ببعضها، وتناغمها في العمل من أجل الأمة بكامل تنوعات خلاياها، ووحدة أهدافها، وطموحاتها.
في غياب المؤسسة لا يمكن لمن يمسك أي وزارة عراقية (باعتبار الوزارة مؤسسة ـ لا حصة تموينية) إلا أن يبدأ من الصفر، لأن من سبقوه إلى شغل المناصب في (هذه الوزارة) لم يبنوا شيئا مؤسساتيا، يمكن البناء فوقه، وتحديثه وتطويره، ليس هناك قاعدة بيانات، غير ملفات وبوكسفايلات عديمة النفع، بل إن وجودها يربك العمل، ويعرقل انسيابيته، أكثر مما يسهل العمل المؤسساتي.
ما يزيد من إمعان العراقيين في قتل بلادهم، هو إهمالهم لأهمية التشريعات، وتركيزهم في تحقيق الأمن والأمان السياسي والغذائي والاجتماعي بأية وسيلة، فهم على سبيل المثال، يريدون الكهرباء باي شكل كان، ولم يخطر ببالهم أن عدم وجود الكهرباء هو نتيجة لعدم وجود قانون أو مؤسسة معنية بالكهرباء تكفل أنظمتها وجود الكهرباء،… إنها الفردية، يظنون أن وزير الكهرباء، هو المسؤول عن غياب الكهرباء، وأن باستطاعة فرد ولو بلغ مبلغ علي بن أبي طالب أن يدير دولة.
المؤسسة الغائبة في التفكير، والتي لا يريدها العراقيون، لأنهم لو أرادوها لأوجدوها، المؤسسة الغائبة هي الحياة، وغيابها هو الموت، فمتى يبدأ العراقيون حياتهم؟ متى يشعرون أن بداية الحل، مرهونة ببداية المؤسسة، سواء كانت مدنية أو رسمية، وأن عليهم قبل المطالبة بالوزير، المطالبة بوجود الوزارة، بضوابطها وتشريعاتها، وأنظمة عملها. ومتى ما وجدت الوزارة (المؤسسة) لم يعد مهما من سيديرها، وما هي طائفته، لأن المؤسسة التي ستنشئها الأمة كفيلة بأن تحدد عمل مديرها، لا أن يحدد المدير عملها.
هل العراق بلد حي إذاً؟ الجواب مرهون بالخلايا الحية التي فيه، والخلية الصغيرة في اي بلد حي، هي المؤسسات، فهل يكذبني أحد بوجود مؤسسة حقيقية ولو على الانترنت في هذه البلاد!