منذ أكثر من قرن، ظهرت كتابات في العالم العربي تصنف ضمن الحداثة الدينية. لكن للأسف لم أجد موسوعة تختص بهذا النتاج الفكري او تعرّف بشخوصه. وطبيعي أن لا يتمكن الجميع من مراجعة الكم الهائل من الإصدارات وقراءة كل ما ينشر. لهذا أحاول من خلال هذا العمود أن أقدم كتّاب الحداثة الدينية العربية المعاصرة بشکل مختصر جدا.
فی کل عمود، اذكر أولا موجزا عن حياة الشخص ونشاطه الثقافي والعلمي ومؤلفاته واشارة بسيطة لأهم أفكاره، لأن العمود لا يستوعب أكثر من هذا، والهدف هو تعريفهم للقارئ، ومن يرغب بالتوسع عليه مراجعة مؤلفاتهم التي سوف أحاول إحصاءها هنا. وسأعتمد التسلسل الأبجدي في ذكر أسماء المفكرين والباحثين.
العفيف الأخضر، مفكر تونسي وناقد مثير للجدل، انتقل من أقصى اليسار إلى الليبرالية.
ولد العفيف الأخضر في عائلة قروية فقیرة في شمال شرق تونس سنة 1934.
درس في جامعة \”الزيتونة\” الدينية، ثم في كلية الحقوق. ومارس مهنة المحاماة من 1957 حتى 1961، وفی هذا العام سافر إلى باريس.
طغى النشاط السياسي على المرحلة الاولى من حياته فالتحق مع يساريين آخرين، بنظام الرئيس أحمد بن بلا غداة استقلال الجزائر، وانضم في الخمسينات من القرن الماضی إلى الحزب الحر الدستوري الجديد. وشارك في الدفاع عن صالح النجار الذي حكم بالإعدام بسبب اتهامه بمحاولة اغتيال الحبيب بورقيبة. غادر البلاد بعد ذلك نحو باريس ثم انتقل إلى الشرق الأوسط في العام 1965، وتنقّل بين عمّان وبيروت حيث طبع أهم كتبه التي كان محورها \”نقد الفكر الإسلامي التقليدي\”. بقى فيها حتى اندلاع الحرب الأهلية، وخلافا لرفاقه اليساريين رفض هذه الحرب، وکل مبرّراتها. وکان یعتقد أن اليسار اللبناني لم يدرك أنه يسهم، بدون وعي، في تحطيم الحصن الوحيد للحرية في العالم العربي \”الغبي والمستبدّ\” حسب تعبیره. فغادر مرة أخرى إلى باريس ولكنه بقى مسكونا بهم بيروت.
بقى العفيف الأخضر في باريس منذ العام 1979م، وكتب من هناك لصحف عربية ونشر مئات المقالات، وحاضر بعض الفترات في القاهرة. لكنه منذ سنوات یمر بوضع صحي حرج جدا.
رغم أنه يكتب بغزارة، ونشر مئات المقالات، إلا أنه لم یصدر سوى كتب معدودة، ثلاثة منها عن دار الطليعة: «التنظيم الثوري الحديث» عام 1972م، و«الموقف من الدين» عام 1973م، و«الثورة الألمانية» عام 1973م.
وقد قام بترجمة بيان الحزب الشيوعي، وكسب بعمله هذا مكانة خاصة في أوساط اليسار الطلابي التونسي في السبعينات والثمانينات من القرن الماضی. لكنه منذ سقوط القطب الشرقي في مطلع تسعينيات القرن الماضي تحول إلى أحد دعاة الليبرالية. وكذلك من دعاة التطبيع مع اسرائيل ومشجعا على التفاوض معها.
توجهه الفكري
قد تكون اهم ميزاته الفكرية تحوله من أقصى اليسار إلى الليبرالية. وعرف بصراحته في نقده، لاسيما نقد الخطاب الديني. ولم يتردد في نقد اي شيء او شخص او فكرة او نص ديني. ولم يستثن القضایا التي تعتبر مقدسة او خط احمر عند المسلمين، من النقد الجارح. ويبدو انه اتبع منهج ماركس الذي اختصره في مقدمة «المساهمة في نقد فلسفة الحق لهيغل» ومفاده أن «نقد الدين يتقدّم على ما عداه من نقد».
استخدم لغة لم يسبقه اليها احد، تصل الى حد الشتائم في بعض الاحيان.
فالعنف والغضب باديان على ما يتناوله، خاصة في نقده للفكر الديني، حيث يقول في مقدمة كتابه «سلطة المجالس» (العدد الأول، ص3): «إن عالمنا العربي بحاجة إلى من يهزّه من الأعماق هزاً، وعقليتنا الدينيّة الخرافية بحاجة إلى من يصدمها بل من يصادمها إلى حد …[ویستخدم هنا ألفاظا نابية]».
وقد أصبحت الحداثة والعلمانية رسالته بعد مغادرة اليسار. وأهتم في كتاباته بمجموعة قضايا، أهمها: الحداثة والديمقراطية، المجتمع المدني، إصلاح التعليم الديني، إشكالية العلمانية والعولمة، الإسلام السياسي والأصولية، والكفاح المسلح.
کان العفیف من القائلين بأن المجتمعات التي تعجز عن التغيير من الداخل يمكن أن تجد نفسها مضطرّة إلى التغيير بالفرض من الخارج. ولو بهجوم من قبل مجتمع متحضر. (مقال «الديموقراطيّة إلى أين»، صحیفة «الراية» القطريّة، 18 آب، 2003). وكان من أول دعاة \”تجفيف منابع\” الفكر الأصولي الإرهابي بعد أحداث 11 سبتمبر-أيلول 2001. وبهذا اعتبر متناغم مع سياسة الرئيس الامريكي \”بوش\”.
یعتبر العفیف صاحب دور مهم في تطوير النظريّة والممارسة الثوريّة العربيّة المعاصرة. وکذلك لعب دورا في مقارعة الاستالينيّة العربيّة.
کتابات العفیف في مجلّة «دراسات عربيّة» ونشراته الاخری کانت تتداول بين اليساريّين الثوريّين، وكانت تتميّز بصراحة وعنف ثوري. وربما کان هو أوّل ناقد ماركسي ثوري لليساريّة العربيّة من منظار معادٍ للاستالينيّة، وفي ما بعد اللينينيّة، مسترشداً بأفكار روزا لوكسمبرغ.
وقد اطلق على نفسه لقب \”محامي الشيطان\” في احدى مقالاته، ولا يتحرج من ان يسمى بـ\”الخارجي\” وأكثر الاستشهاد والاسترشاد فی کتاباته بالتجربة القرمطيّة والخوارج والإسماعيليّة.