في ظل الأزمات الاقتصادية التي يشهدها العراق، وبعض دول المنطقة، التي أدت إلى انخفاض العملات الرسمية لمستويات قياسية، برزت ظاهرة ارتفاع قيمة العملات الرقمية المشفرة، لأسباب كثيرة، فيما جرى الترويج لأشخاص أصبحوا فاحشي الثراء بسبب بيعهم تلك العملات التي كانت بحوزتهم منذ سنوات قبل أن ترتفع قيمتها.
التداول بالعملات الرقمية في العراق، فعل يجرمه البنك المركزي، بل يخضع صاحبه لأحكام قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب رقم 39 لسنة 2015، بحسب بيان البنك المركزي الصادر هذا العام خلال أزمة الدولار، وهو ما وصفه متخصصون، بالأمر “الإيجابي” الذي يحمي اقتصاد الدولة، فالعملة يجب أن تكون تحت سيطرة البنك المركزي، ولها تغطية تامة، فيما عرّفوا تلك العملات بأنها “بطاقة” فقط، لكونها لا تمتلك إسنادا ماليا من دولة، وارتفاع قيمتها جاء بسبب الطلب فقط وليس حقيقيا.
ويقول الخبير المالي والاقتصادي قصي صفوان، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إن “هناك جوانب خفية في معرفة من هو صاحب هذه العملات، وذلك لأن عمليات إصدارها تتم من خلال جهات غير مصرفية وغير قانونية، وهي تعتبر الملاذ الآمن للأغراض غير الشرعية لأنها مجهولة المصدر”.
ويضيف صفوان، أن “البنك المركزي حريص على عدم إدخال عملات مجهولة المصدر قد تدخل في عمليات غسيل الأموال، لمجهولة مصدرها، فعملية منع التداول داخل العراق تهدف إلى منع خروج الأموال إلى الخارج بشكل غير شرعي أو بدون معرفة الأسباب التي أدت إلى خروجها”.
ويلفت إلى أن ” قسم كبير من المتعاملين بهذه العملات يحاولون البحث عن الأرباح بشكل سريع، وهذا من الممكن أن يؤدي إلى زيادة الطلب على العملة في أوقات محددة، خاصة إذا كانت هناك أموال مجهولة المصدر تحاول امتلاكها، فيتم التوجه لهذه العملات ما يؤدي لرفع قيمتها”.
ويشير إلى أن “حماية النظام الاقتصادي يتطلب بالتأكيد عدم التعامل بمثل هذه العملات، فمن الواضح عملياً هناك بعض الذين يحصلون على الأموال من مصادر غير مشروعة ويحاولون استخدام هذه العملات لتبرير أرباحهم المكتسبة”.
يذكر أنه يتم استخدام العملات الرقمية في التعاملات التجارية المباشرة وفي معاملات الدفع والسداد الإلكتروني، وأيضا في عمليات نقل وتحويل الأموال بين المستخدمين بسرعة ودون وجود للوسطاء، وذلك دون الاعتراف بالحدود الجغرافية أو السيادية للدول ودون الخضوع لقوانينها الداخلية، وأغلب هذه التعاملات تجري في “الانترنت المظلم”، الذي يمثل مساحة لكافة التعاملات غير المشروعة مثل تجارة المخدرات وبيع الأعضاء البشرية وعمليات تأجير القتلة.
يشار إلى أن أول عملة رقمية، صدرت في عام 2009 وهي البتكوين، وظهرت كرد فعل على الأزمة المالية العالمية التي أصابت النظام المصرفي الأمريكي بالشلل في بداية الأمر، ثم انتقلت إلى النظام المالي العالمي، حيث أدعى مؤسس هذه العملة وهو مجهول الهوية المعروف باسم (ساتوشي ناكاموتو)، أن هذه العملة تعمل بعيداً عن البنوك المركزية، وهو ما أستهوى رواد الانترنيت وبعض الشبكات الاجرامية نتيجة لسرعة إجراء التحويلات المالية وبعدها عن الرقابة المصرفية الحكومية، مما يجعل الكثير من عمليات التبادل المالي غير خاضعة للسيطرة والتحكم الحكومي ودون تعقيدات وقيود البنوك المركزية.
من جانبه، يبين الخبير الاقتصادي وأستاذ الاقتصاد في الجامعة العراقية، عبد الرحمن المشهداني، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “العديد من البنوك العالمية جرمت التعامل بالعملات الرقمية لأنها تؤدي إلى فقدان سيطرة البنك المركزي على السياسة النقدية، لأن العملة الاعتيادية يكون البنك المركزي مسؤولا عن إصدارها حصرا، وهو الذي يقدر الحاجة الفعلية لها، وعلى ضوء ذلك يتم الإصدار، وبالتالي فهو المسؤول عن رسم سياستها النقدية، أما العملات النقدية فهي مجهولة المصدر، ومن الممكن أن تدمر السياسة الاقتصادية للبلدان”.
ويؤكد المشهداني، أن “العملات الرقمية يمكن أن تكون واحدة من البوابات الخطرة لعبور عمليات غسيل الأموال بكل الاتجاهات واستثمارها في تمويل الإرهاب، وهذا ما تؤكد عليه اغلب البنوك المركزية العالمية”، مبينا أن “حادثة الشاب التركي البالغ من العمر 18 عاما الذي استطاع في فترة أقل من سنة تقريبا الحصول على 4 مليارات دولار ثم هرب بها، ما أدى لخسارة الناس أموالهم، وحتى بعد اعتقاله من قبل السلطات البرازيلية وتم تسليمه للسلطات التركية، إلا أنه لم يتم استرجاع أي من الناس أمواله، وتعد هذه واحدة من أشهر عمليات الاحتيال في السنتين الماضيتين بسبب هذه العملات”.
ويلفت إلى أن “عمليات التعدين التي يقوم بها الأفراد تؤدي إلى ارتفاع الأسعار، بالإضافة إلى ذلك أصبح الشخص يقبل المجازفة وذلك لسهولة الحصول على الأموال”.
وما تزال عملة البتكوين، حتى الآن محط خلاف لدول العالم، وهذا الخلاف ينطبق على جميع العملات الرقمية التي تلتها، حيث هناك بعض الدول تمنع استخدام هذه العملات مثل العراق والجزائر ومصر والصين وتركيا وإيران وبنغلادش، ولكن هناك بعض الدول سمحت باستخدامها، منها السلفادور وأفريقيا الوسطى والولايات المتحدة وكندا، أما الدول التي وضعت بعض القيود في استخدامها فهي فيتنام وجورجيا.
ويشهد العراق تذبذبا بسعر صرف الدولار، فضلا عن فرض قيود كبيرة على التحويلات المالية سواء الخارجة أو الداخلة له، وذلك لمنع تهريب الدولار إلى خارج البلد، كما جرى فرض عقوبات على العديد من المصارف العراقية بسبب تورطها في عمليات تهريب وخاصة إلى إيران، الواقعة تحت عقوبات أمريكية.
وفي ظل هذا التذبذب بسعر صرف الدولار وعدم استقرار الدينار العراقي في السوق المحلية، شهد تطبيق “الفوركس” للتداول المالي انتشارا واسعا، كما انتشرت شركات الوساطة لإتمام عمليات التداول في بورصة العملات، وهي العملات الرسمية فقط، مثل الدولار واليورو والمعادن الأخرى مثل الذهب والفضة.
إلى ذلك، يبين الخبير الاقتصادي همام الشماع، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “البنك المركزي محق تماما في منعه التداول بالعملات الرقمية داخل العراق، لأنها اصطلاحا يمكن تسميتها بالعملات، لكنها ليست عملات بالمعنى الحقيقي، وذلك لأن العملة تمتلك قوة الإلزام من قبل جهة رسمية معترف بها دوليا، فيمكن أن تتم تسميتها بطاقات صادرة عن جهات غير رسمية”.
ويوضح الشماع، أن “الناس هي من أعطت القيمة العالية لمثل هذه العملات بسبب التفاوت على شرائها، لكن في حقيقة الأمر، هي قيمة وهمية وليست حقيقية، إذ لا يسندها رصيد من بنك مركزي، ولا يقف وراءها اقتصاد دولة، وذلك لأن أي عملة لابد أن تستمد قيمتها الحقيقية من اقتصاد دولتها”، مبينا أن “العملات الرقمية تكون صادرة عن شركات قد يكون لديها رصيد مالي، ولكن ليس لديها اقتصاد، وبالتالي تحويل قيمتها الرقمية إلى قيم حقيقية غير سهل داخل العراق”.
وما تزال وسائل التواصل الاجتماعي، تعج بفيديوات ولقاءات تلفزيونية مع أشخاص كانوا يمتلكون بعض العملات المشفرة وخاصة البتكوين، التي بلغت قيمتها أرقاما هائلة وخاصة في فترة تفشي وباء كورونا والإغلاق الذي دخلته دول العالم، حيث يجري العمل على تسليط الضوء على الأرباح التي حققها هؤلاء الأشخاص بعد بيعهم للعملات التي كانت بحوزتهم.