الصراع العلني بين قناة “MTV” وتلفزيون “الجديد” اللبنانيين مؤخرا، أعاد إلى الواجهة، قضية الصفقة الغامضة بين العراق ولبنان، حول طباعة الكتب الدراسية العراقية في بيروت مقابل تزويدها بزيت الوقود “الفيول” من قبل بغداد للعام الثاني توالياً، ففيما أكدت مصادر في كلا البلدين، انطواء الصفقة على شبهات فساد كبيرة، لاسيما بعد ذهابها إلى رجل أعمال لبناني متورط بالفساد في بغداد وبيروت، أبدت لجنة النزاهة النيابية عزمها فتح الملف، واتخاذها موقفا حازما تجاهه.
وتقول مصادر عراقية مطلعة، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إن “هناك توجها نحو طباعة الكتب المدرسية للعراق بأكثر من 200 مليون دولار لدى لبنان، على أن يسدد هذا المبلغ من الديون المترتبة على لبنان، نتيجة تزويده بزيت الوقود العراقي منذ سنتين، والذي لم يسدد أي جزء من ثمنه حتى الآن”.
وتبين المصادر، أن “العراق كان متفقا مع لبنان على تسديد أموال هذه المادة من خلال تقديم الجانب اللبناني خدمات طبية بإرسال أطباء لإجراء عمليات جراحية بالمجان في بعض المستشفيات العراقية، وكذلك إرسال بعض المواد الزراعية والغذائية، لكن حتى هذا الأمر لم ينفذ من قبل لبنان، ولأسباب غير معلومة”.
وتضيف أن “هناك مقترحا قدمه لبنان إلى العراق بأن تطبع الكتب الدراسية في بعض المطابع اللبنانية الأهلية بمبلغ يتم استقطاعه من ديون الوقود العراقي، وقيمة صفقة طباعة الكتب أكثر من 200 مليون دولار كصفحة أولى، لكن هذا الأمر ما زال مجرد مقترح ولم ينفذ حتى اللحظة”.
وتكشف المصادر، أن “العراق خلال هذه السنة لم يقم بطباعة الكتب الدراسية خارج البلاد أو داخلها بسبب عدم إقرار الموازنة وعدم توفير الأموال، ولذا فإن هناك توجها لطباعة الكتب الدراسية في لبنان مقابل الوقود المرسل من بغداد، وهناك وفد فني عراقي يعتزم زيارة لبنان قريبا لمناقشة هذا الملف مع الحكومة اللبنانية”.
وتشير إلى أن “الحكومة اللبنانية ترغب بطباعة هذه الكتب لدى مطابع تحسين خياط، المتورط في الأصل بقضايا فساد في طباعة الكتب سابقا في العراق من خلال إحدى شركاته، التي يديرها ابنه كريم تحسين خياط، وهذا الشخص عليه قضايا ودعاوى في المحاكم العراقية تتعلق بالفساد”.
وتتابع أن “قضية طباعة الكتب في لبنان مقابل أموال الوقود، فكرة مدعومة بقوة من قبل رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي، على الرغم من أن العراق يمتلك مطابع عملاقة في جريدة الصباح الرسمية وأخرى تابعة للعتبات الدينية وغيرها”.
وتفجّرت القضية لبنانيا، بعد صراع علني حاد على مستوى الإعلام المحلي، حيث تابعت “العالم الجديد” الحملة التي شنتها قناة MTV”“، ضد تحسين خياط، رجل الأعمال اللبناني ومالك تلفزيون “الجديد”، وصاحب أكبر المطابع في لبنان، بعد أن ذهب العقد لصالح مطابعه، فيما ردت الأخيرة باتهام مالك الأولى بارتكاب مخالفات قانونية وأخلاقية.
خياط ومسؤولون آخرون في لبنان، دافعوا عن العقد ووصفوه بأنه سيحرك عجلة الاقتصاد وسيعود بالفائدة لآلاف العاملين في قطاع الطباعة، وهذا وسط تأكيدهم على أن الوفد العراقي التقني لم يصل إلى لبنان لغاية الآن، وأن ما وصل هو الوفد الوزاري فقط.
ويرتبط خياط بأطراف سياسية مؤثرة في المشهد اللبناني، وسبق لـ”العالم الجديد” أن كشفت سابقا عن ارتباط رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي بجهات سياسية لبنانية، ما دفع إلى تجديد عقد “الفيول” لعام آخر، على الرغم من عدم تسديد لبنان ما بذمته من مستحقات عن العقد السابق الذي كانت مدته عاما واحدا أيضا.
من جهته، يفيد الخبير في الشأن الاقتصادي ناصر الكناني، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، بأن “لدى العراق إمكانية كبيرة في طباعة الكتب الدراسية داخل البلاد من خلال المطابع الحكومية أو المختلطة أو الأهلية، وطباعة الكتب في خارج البلاد لها تأثيرات اقتصادية كبيرة”.
ويوضح الكناني، أن “ملف طباعة الكتب الدراسية من الملفات الخطيرة في العراق والتي دائما ما تختلط بشبهات فساد، تم الكشف عن بعضها بشكل رسمي من الجهات المتخصصة”.
ويشير إلى “عدم حاجة العراق إلى طباعة الكتب في لبنان، وبدلا من أموال الوقود المرسل، فإنه بحاجة إلى أمور أكثر أولوية، من قبيل التعاون الاقتصادي في مجال البناء والإعمار وكذلك الاستيراد والتصدير، فهذا الملف اقتصادي، ويجب أن يستغل من قبل الجانب العراقي بشكل اقتصادي، بعيدا عن أية توجهات سياسية تريد عدم استفادة العراق اقتصاديا من أموال النفط”.
وكان وزير الطاقة اللبناني وليد فياض، زار بغداد في تموز يوليو الماضي، والتقى مسؤولين عراقيين، بهدف تجديد عقد تزويد العراق لبنان بمادة “الفيول (زيت الوقود)” لتشغيل محطات الكهرباء فيه، لكن تم إبلاغه من قبل المسؤولين العراقيين بأن الصيغة الحالية للعقد لم تعد مناسبة وتحتاج إلى تعديل، وفقا لما نشرته وسائل إعلام لبنانية.
إلى ذلك، يوضح عضو لجنة النزاهة البرلمانية هادي السلامي، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “الكاظمي وبعض أعضاء فريقه الحكومي متورطون بالكثير من القضايا التي عليها شبهات ومؤشرات فساد، ونحن نتابع هذه الملفات ولنا موقف منها لدى الجهات القضائية المتخصصة”.
ويلفت السلامي، إلى أن “ملف طباعة الكتب الدراسية في لبنان سيكون متابعا من قبلنا في حال تم الاتفاق على هكذا خطوة، ولذا سيكون موقف لجنة النزاهة البرلمانية حازما لمنع أي شبهات فساد، خصوصا أن أموال طباعة هذه الكتب هي من النفط العراقي، وهو ملك للعراقيين وليس ملكا للكاظمي وحكومته حتى يتصرف فيه كما يشاء”.
ويؤكد أنه “خلال الأيام المقبلة، سيكون لنا حراك برلماني لكشف هذه الصفقة ومنع أي شبهات فيها، كما سيتم تقديم أسئلة برلمانية إلى رئيس الوزراء ووزارة التربية ووزارة النفط، لكشف تفاصيل هذه الصفقة، وسيكون لنا موقف حازم إذا ما تم كشف أي شبهات بهذا الملف”.
وكانت “العالم الجديد”، قد كشفت في تقرير سابق، عن كواليس الاجتماع الذي جمع فياض بوزير المالية المستقيل علي علاوي داخل مكتب الأخير في بغداد، وفيه طالب الوزير اللبناني بتجديد العقد لمدة عام آخر، مع زيادة بكمية النفط عن العقد السابق، لكن علاوي رد عليه بأن عليه تسليم المستحقات المالية أولا، مع معرفة أوليات الشركة التي يتم تكرير النفط فيها لئلا تكون تحت طائلة العقوبات الأمريكية، ما قد يعرض العراق تبعا لذلك إلى عقوبات هو في غنى عنها.
ودائما ما يثار اللغط حول ملف طباعة الكتب في العراق، وقد وكشفت مصادر صحفية في الأعوام الماضية، عن بلوغ كلفة طباعة الكتب ما يقرب من 200 مليار دينار (نحو 160 مليون دولار في حينها)، تحال لمطابع أجنبية وبأسعار مرتفعة جدا، من دون وجود أي رقابة أو متابعة.
إلى ذلك، يعلق الكاتب والصحفي اللبناني حازم الأمين، خلال اتصال مع “العالم الجديد”، بالقول إن “قضية طباعة الكتب المدرسية من قبل لبنان مقابل أموال الوقود المرسل من بغداد إلى بيروت لا تخلو من صفقات وشبهات الفساد، خصوصا أن لبنان لا يملك الإمكانية على مختلف المستويات لتجهيز العراق بالكتب الدراسية، بل إن إمكانيات العراق أكبر وأفضل من لبنان في هذا المجال”.
وبشأن تقديم الخدمات الأخرى، يشير الأمين إلى أن “لبنان غير قادر على تقديم أي من الخدمات الطبية وغيرها للعراق مقابل أموال الوقود، ولذا فإن الحكومة اللبنانية تريد تمرير هذه الصفقة التي لا تخلو من فساد، بهدف دفع المستحقات المالية”.
ويتابع الأمين، أن “صفقة طباعة الكتب من قبل لبنان، والتي يراد إعطاؤها إلى تحسين خياط، الذي يعد من أعمدة نظام الفساد في لبنان، وحتى ابنه كريم متورط بقضايا فساد في داخل لبنان، تثير مخاوف كبيرة من أنها صفقة فساد تتم بعنوان طباعة الكتب الدراسية للعراق، على الرغم من أن لبنان حاليا يفتقر تماما لأي إمكانية لتحقيق هذه الصفقة بشكل فعلي وحقيقي”.
يشار إلى أن وسائل إعلام لبنانية، كشفت خلال الأيام الماضية، أن المسؤولين بمطابع خياط في حركة دائمة وزيارات لوزارة التربية العراقية وسفارة العراق في لبنان، بغية إكمال العقد وترتيب كافة إجراءاته.
وورد اسم خياط في وثيقة تداولها الإعلام العراقي، صادرة عن جهاز المخابرات العراقي، في 2017 حول فساد يتعلق بوزارة التربية.
وكانت مجموعة خياط، قد دخلت سوق الطاقة في العراق عام 2011 بعد إعلان إحدى شركاتها “ميدل أيست باور”، توقيع اتفاقية لشراء الطاقة مع إقليم كردستان العراق، وتحديدا في مدينة السليمانية.
جدير بالذكر أن اسم تحسين خياط، وارد ضمن وثائق بنما لعام 2016 (وساهمت “العالم الجديد” في نشر الوثائق الخاصة بالعراق حينها)، والتي كشفت كيف يلجأ بعض الأثرياء إلى شركات مسجّلة في الخارج للتّهرب من الضرائب وتجنب العقوبات، وقد نشر موقع صنداي تايمز أسماء تحسين خياط ووله كريم وبنته بشرى وزوجته، كمالكين أو مساهمين في تسع شركات، خمسةٌ منها تم تسجيلها في بنما وأربعة شركات مسجلة في بريطانيا والمعروف أن هذا النوع من الشركات يغطي عمليات غسل الأموال.