صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

(الفندق) بين الرواية التلفزيونية والرواية المقتبسة

 

ضمن الموسم الرمضاني الذي تتسابق فيه القنوات التلفزيونية إلى عرض الأحدث والأفضل من أعمال أنتجتها طوال السنة التي سبقته، دخل سباق الدراما العراقية العمل التلفزيوني (الفندق) الذي جنَّسه كاتبه على أنه “رواية تلفزيونية”، وأثار هذا العمل منذ حلقته الأولى الكثير من الجدل في الأوساط الثقافية والفنية وكذلك بين المشاهدين بمختلف مستوياتهم الثقافية، فانقسمت المواقف بين من أصدر حكمه وعبَّر عن رأيه منذ الحلقتين الأولى والثانية وهم أيضا لم يجمعهم رأي واحد وانطلقوا من منطلقات مختلفة فنية وأخلاقية وسياسية، فانقسموا إزاء العمل بين موقفين حانق ومعترض أو مشجع ومادح، بينما اكتفى قسم آخر من المشاهدين بالمتابعة إلى أن استقر العمل منتظرا نهايته لإصدار الحكم وقول الرأي، ومنهم كاتبة هذه الدراسة. فماصلة هذا العمل بالأدب الروائي المعروف؟ ولماذا أُطلقت عليه صفة الرواية التلفزيونية وليس الدراما أو المسلسل التلفزيوني كما هو معتاد عليه؟ ما الأمور التي قرَّبت هذا العمل من النصوص الروائية المقروءة تتمظهر علاقة هذا العمل بالرواية في اتجاهين، الأول الجنس الكتابي الذي صنفه الكاتب ضمنه، وأما الاتجاه الثاني فقضية اقتباسه من عمل روائي عراقي شاع مؤخرا أنه (مسروق) منه. فأما الاتجاه الأول فيمكننا النظر فيه انطلاقا من السؤال أعلاه، بعد أن نبحث في ماهية الرواية التلفزيونية وفي فرقها عن المسلسل التلفزيوني وما علاقتها بالرواية بوصفها جنسا أدبيا مقروءا بعيدا عن الفنون المرئية وقريبا منها في آن واحد.

يطرح الكاتب السوري نهاد سيريس تساؤلا مفاده “هل الرواية التلفزيونية حقيقة أم إننا نطلق على المسلسل التلفزيوني اليومي هذه التسمية كي نرفع من سوية نصوصنا التي نكتبها، على الأقل، بإطلاق التسميات الكبيرة على أشياء أقل منها أهمية؟” (سيريس، 8/12/1998) ليجيب لاحقا منطلقا من المقارنة بالدراما التلفزيونية واستعارتها لمصطلح الدراما من الحقل الأدبي والمسرحي بالتحديد قائلا: “لا أعتقد اننا نتجرأ على ذلك إذا لم تكن لدينا أسباب تشابه الأسباب التي دعت المشتغلين بالفنون التلفزيونية لإطلاق تسمية “الدراما” على مسلسلاتهم مستعيرينها من المسرح ومن الرواية أيضاً” (سيريس، 8/12/1998) وهنا يعطي الكاتب للرواية التلفزيونية شرعية توظيف المصطلح للدلالة على جزء من الأعمال التلفزيونية التي تتسم بسماتها الخاصة المميزة لها، فلمصطلح الرواية التلفزيونية جذوره وامتداداته غير العربية إذ يدل مصطلح (تيلينوفيلا) الإسباني الأصل على مسلسلات الدراما الشعبية التلفزيونية التي تعرض في قنوات الدول الناطقة باللغة الاسبانية في كل من أمريكا اللاتينية، والبرتغال، والفلبين، واسبانيا، وامريكا الشمالية، ولا سيما المكسيك والولايات المتحدة. وتتكون كلمة (Telenovela) من مختصر كلمتين مركبتين هما: تيلي اختصار لكلمة تلفزيون ونوفلا التي تعني الرواية، فالتيلي نوفيلا هي الرواية التلفزيونية (ويكيبيديا)، أما (المسلسل) فهو مصطلح فرنسي الأصل وسمي أيضا بـ(الفيلم ذي الحلقات) أو (الرواية السينمائية) “وكانت حلقاته تظهر في الصحافة في وقت معا، وإنه المعادل السينمائي للحلقات الروائية المسلسلة في الصحف التي يستغل منها مبدأ القلق الذي تثيره، فكل حلقة تتوقف عند لحظة حرجة تتيح إبقاء المشاهد في حالة النفس المقطوع” (جورنو، 2007)، وهناك فرق بين المسلسل والسلسلة، التي يقصد بها الفلم المكون من عدة أجزاء تشكل كلا واحدا نجد فيه بطلا واحدا تستمر مغامراته من فيلم إلى آخر مثل جيمس بوند واينديانا جونز وغيرهما (جورنو، 2007)، ولاننس أن المسلسل ارتبط بشاشة التلفزيون بينما ارتبطت السلسلة بالشاشة السينمائية، ويجمع بين كليهما كونهما سردا صوريا يقترب كثيرا من السرد المقروء في الأعمال الروائية، لا بل قد يقتبس عنها أو يبنى على أساسها، وفي حالة اقتباس العمل عن نص روائي مكتوب تتم الإشارة إلى ذلك في تايتل العمل، وقد يُبنى على غرار عمل روائي معروف كما نجد في عمل (ليالي الحلمية) لرائد الرواية التلفزيونية (أسامة أنور عكاشة) الذي لقب  (نجيب محفوظ الدراما التلفزيونية)، إذ بني العمل على أساس أنه ثلاثية كما هو الحال مع ثلاثية محفوظ، وبعد أن حصل على شعبيته أكمل بجزئين آخرين، وحملت هذه الخماسية التلفزيونية الروح المحفوظية وصيغت على غرار الثلاثية الشهيرة وبنيت فنيا بناء أشبه ببنائها، ومن هنا يرى بعض الباحثين أن “واقع المسلسل التلفزيوني يشابه واقعي الرواية والفيلم السينمائي، لهذا يمكن اعتبار المسلسل التلفزيوني سرداً روائياً بالصورة (هذا لايعني إلغاء الحوار) أي اننا يمكن أن نطلق على المسلسل اسم الرواية التلفزيونية إذا توفرت فيه بعض التقنيات التي طورتها الرواية الأدبية مثل الاهتمام بالعالم الداخلي للشخصيات وإظهار ميولها وضعفها وقلقها وحالاتها النفسية وغيرها. كما أن على الرواية التلفزيونية أن تبني عالمها بدقة وفق نسق واحد على صعيد وحدة الزمان والمكان والبيئة واللغة والثقافة الشفوية والملابس والموسيقا وغيرها. أيضاً على الرواية التلفزيونية أن تُعنى بتعدد الأصوات وأن تطرح القضايا الفكرية والفلسفية والسياسية وغيرها من الأنشطة الإنسانية.

إن الفارق بين المسلسل العادي والرواية التلفزيونية يتطابق مع الفارق بين أفلام المقاولات والأفلام الفنية ومع الفارق بين رواية التسلية التي تكلم عنها ليونيل آيدل وبين الرواية الأدبية الغنية” (سيريس، 8/12/1998)، وهذا ما تؤكده علاقة رائد الرواية التلفزيونية عكاشة مع الأدب التي تجاوزت امتلاكه لعدد من النصوص الأدبية المقروءة يصدرها بصفة دورية، بل وصلت إلى إصراره على أن النص المرئي هو نص أدبي رفيع المستوى وليس فقط مجرد نقل المكتوب إلى مشاهد مرئية، وهذا دفعه لوصف ما يقدمه من أعمال مرئية بأنها ما هي إلا (رواية تلفزيونية) وليست مسلسلات، وبالنتيجة استطاع أن يطبع سيناريو (ليالي الحلمية) لقناعته أن النصوص المرئية تنتمي إلى عالم الأدب،  وكرر تجربة الطباعة مع فيلمه (الاسكندراني) عندما لم يجد المنتج الذي يستوي بوساطته العمل كما يريد كاتبه (صالح، 31/5/2010)، وحصلت أعمال عكاشة على شهادة نجيب محفوظ التي يرى بعض الباحثين أنها أكدت أننا نعيش زمن الرواية التلفزيونية، “فقد قال محفوظ لأسامة: (ليالي الحلمية) وقبلها (الشهد والدموع) هي روايات مرئية ميزتها أن غير المتعلم يستطيع أن يقرأ ما فيها بسهولة ومتعة، وما أكثر غير المتعلمين في العالم العربي !وكأن محفوظ بهذه الكلمات يشير إلى أهمية رواية التلفزيون التي يقدمها الكاتب في شكل مسلسلات. وقبل ذلك بسنوات، كان الأديب عبدالله الطوخي قد أعلن صراحة في مقال حزين وشهير عن “غروب الأدب” وكتب تحت هذا العنوان يقول :إن مسلسلات أسامة أنور عكاشة أكثر تأثيراً في مستوى القاع الشعبي من أعمال نجيب محفوظ، واقترح أن تعقد مصالحة أو يتم زواج الرواية الأدبية والتلفزيونية فيما يمكن أن يسمى بـ(التليرواية)” (الجمل، نوفمبر 2000)، وإن انطلقنا من منطلقات التعريفات أعلاه للروايات التلفزيونية ومن استقراء أعمال عكاشة فإننا نذهب إلى أن العمل قيد الدراسة لا ينتمي إلى جنس الرواية التلفزيونية، وإنما ليس سوى مسلسل تلفزيوني درامي اعتيادي، فمن ناحية الشخصيات حاول الكاتب الغوص في دواخل الشخصيات لكنه تاه في عوالمهم الداخلية ولم يستطع رسمها ولا بنائها بناءً متقنا بحيث تصير مقنعة للمتلقي من خلال إظهار ميولها وضعفها وقلقها صوريا وبطريقة معبرة، إلا فيما ندر، لكنه استعاض عن ذلك بالحوارات المنطوقة بين الشخصيات فضلا عن مونولوجات الشخصيات التي تعرض فيها مشاعرها وحالاتها النفسية، أما فيما يخص الرؤية البوليفونية أو تعدد الأصوات في العمل قيد الدراسة فقد غابت تماما، ذلك أن العمل بأكمله يروى من وجهة نظر واحدة، وهي وجهة نظر الصحفي (كريم نعمان) الذي أدى دوره (محمود أبو العباس) واتضح لنا في نهاية العمل أننا رأينا كل شيء من خلال عيني هذه الشخصية.

غير أن (الفندق) التزم من سمات الرواية التلفزيونية انه بني على أساس وحدة الزمان والمكان والبيئة وأخفق في اللغة والثقافة الشفوية من وجهة نظرنا ولاسيما في شخصية (ماري) التي لعبت دورها (سناء عبد الرحمن)، فضلا عن أن العمل طرح عددا كبيرا من القضايا الفكرية والسياسية السائدة في المجتمع العراقي، حتى أنه تاه في زحمتها فظهرت مجمَّعة على غير هدى وسطحية لاحلول لها ولا نهايات شافية لمشكلات متعددة طرحها العمل كالبطالة، والإدمان، وتجارة الممنوعات، والاتجار بالبشر، وتجارة الأعضاء، فضلا عن سلبيات مواقع التواصل الاجتماعي، والابتزاز، وزنا المحارم، والانتحار، وفساد الطبقة السياسية العراقية والمتعاملين معها، وازدواجية الشخصية العراقية والشخصية المتدينة على وجه التحديد.

 أما الاتجاه الثاني في علاقة العمل الدرامي (الفندق) بالرواية، وهو قضية اقتباسه أو أخذه من رواية عراقية سابقة له، فقد صار النقاش قي هذه المسألة مبتذلا جدا على صفحات الجرائد وفي مواقع التواصل الاجتماعي، وخرج من باب الادعاء بأحقية النص ونسبته لشخص بعينه ليصل إلى التطاول والاستهزاء والإساءات الشخصية التي لاتمت للنقد بصلة من قريب ولا من بعيد، ولم تتوقف الاتهامات والمشادات بين المؤلفين فقط وإنما بدأت تطول كل من أصدر حكما في هذا الخصوص سواء مع العمل الروائي المقروء أو مع العمل الدرامي المرئي تلفزيونيا، وهذا ما يرتبط بموضوعية الأحكام ومصداقيتها. ومن البديهي في أي حكم نقدي أن يطَّلع المُوازِن أو المُقارِن بين العملين طرفي النزاع على العملين كليهما، فضلا عن ضرورة أن يتخلص من الدافع الذاتي في الحكم لتصير الموضوعية هي الدافع والمحرك الوحيد للحكم عليهما، وهذا لا يتحقق من وجهة نظري إلا إن نحَّينا المؤلفِينَ عن أن يكونوا أطرافا في المقارنة، واعتمدنا فقط على النصوص الروائي المقروء/التلفزيوني المرئي بقطع الصلة عن مؤلفيهما فهل الثاني مقتبس من الأول أو مبني على أساسه أم لا وما سمة هذا الاقتباس إن كان موجودا أو مانوعه.

 والاقتباس عن الأعمال الأدبية يحصره (جانيتي) في ثلاثة و”بالتطبيق الفعلي تقع أغلب الأفلام في مكان ما بين هذه الاصناف” (جانيتي، 1981) وأول مستوى من مستويات العلاقة بين الرواية والسينما هو الاقتباس الأمين الذي “يحاول إعادة خلق المصدر الأدبي بالتعبير الفلمي محافظا على روح المصدر الأساسي قدر الإمكان، لقد شبه أندريه بازان المعد الأمين بالمترجم الذي يحاول أن يجد المعادلات للأصل” (جانيتي، 1981)، أما المستوى الثاني من الاقتباس فهو الاقتباس غير المشدود الذي يتمثل بأخذ فكرة وموقف أو شخصية مأخوذة من مصدر أدبي ثم يتم تطويرها بصورة مستقلة (جانيتي، 1981)، فالاقتباس ليس محاكاة العمل الروائي وإنما عبقريته خلاقة تعمل على استلهام حر يوجب على صانع الفلم النظر إلى النص الروائي لتخطيط ما يمكن اتباعه بدقة وما يجب استبداله ليتوافق مع رؤية صناع الفلم (ديك، 2015)، وأما النوع الأخير من الاقتباس فهو ما يسميه جانيتي مرة بـالأدبي ومرة بـالحرفي ويقتصر فقط على الاقتباس من المسرحية، ذلك لأن “لغة المسرح الرسمي وأحداثه صالحة للتحويل سينمائياً، وأهم التغييرات في الإعداد الحرفي يحتمل أن تشمل الاختلافات في الزمان والمكان وليس اللغة” (جانيتي، 1981)، وبناء على هذا نجد أن لاوجود لاقتباس حقيقي في عملنا قيد التحليل، إذ اختلف العملان اختلافا كبيرا، وهذا لاينفي التشابه الحاصل بينهما، من نواحي جزئية وتفاصيل كثيرة، فنص السيناريو قد أخذ الأفكار البارزة في العمل الروائي، ووظفها دراميا في نصه التلفزيوني، وبنى عليها هذا العمل، ما يعني أن العمل الثاني (التلفزيوني) لم يكن اقتباسا للعمل الأول وإنما كان أشبه بعملية إعادة خلق من المواد الأولية نفسها، سواء كانت أفكار أو حوارات أو طريقة بناء، إلا في الشخصيات فقد اعتمد النص التلفزيوني على شخصيات مختلفة يضمها فضاء مختلف، كما تعددت الاماكن في العمل الروائي وبالمقابل اختصرت في العمل التلفزيوني، وقد يكون هذا التشابه وإعادة الانتاج سبب إرباكا في بناء النص المرئي، الذي ضاع في زحمة اخفاء الاخذ من نص سابق له، وفي الوقت نفسه إضفاء الروح الدرامية على العمل وجعلها روحا عراقية خالصة بأماكن عراقية، تختلف عن الرواية التي جرت أحداثها لعراقيين خرجوا ولجأوا إلى دول أخرى في زمن يسبق 2003، بينما المسلسل وأحداثه في عام 2018.

 وإن مررنا بموضوعية على مواضع التشابه بين العملين بعد الاطلاع عليهما ودراستهما تفصيليا، نجدها قسمين، الأول مأخوذ حرفيا من الرواية، كفكرة وجود الشبح وقصته، وكوابيس البطلة (عشتار/منار)، واشياء أخرى انطلاقا من الثيمة الأساسية للرواية، المتمثلة بأن القارئ يقرأ العمل بأكمله ليكتشف في نهايته (المشهد الأخير) أنه وقع في فخ لعبة سردية لعبها المؤلفان بتقديم أحداث متكاملة محبوكة للقارئ من وجهة نظر خارجية بدون تدخل الراوي، وهي أشبه بالرواية بعين الكاميرا، ليكشفا بالنهاية أن كل تلك الأحداث ليست سوى أحداث رواية يكتبها الاثنان، وهذا ما حصل أيضا في العمل التلفزيوني، الذي يقدم في عشرين حلقة أحداثا متعددة ليكتشف المشاهد أخيرا في الحلقة الأخيره انها ليست سوى رواية يكتبها أحدهم. غير أن الرواية التي تكتب في العمل المقروء تكتبها شخصيات من خارجه، أما الرواية في العمل المرئي فتكتبه شخصية من داخل العمل نفسه، وتضع نفسها بطلة فيه، وهذا أيضا من التشابهات إذ وضع أحد المؤلفين نفسه بوصفه شخصية داخل العمل الروائي المقروء. ومن التشابهات الجذرية بين العملين التي اخذها المسلسل حرفيا من الرواية فكرة الأرواح الهائمة، التي يرد سردها تفصيلا في المشهد7 من الرواية، على لسان (زهراء) وهي إحدى الشخصيات التي تسكن مع (عشتار/ منار) في المنزل، تقول: “إن هذه المنازل بنيت على قبور العبيد الذين كانوا يقتلون على يد صاحب القصر في أواخر القرن الثامن عشر، امرأة فاحشة الثراء جميلة، قاسية، انتزعت من قلبها الرحمة، حتى على زوجها وبنتيها تحتكم على عدة هكتارات من مزارع الذرة والبطاطا والشعير وبضعة عشرات من العبيد الذين يطيعونها طاعة عمياء وإن خالف أحدهم أمرها أو أخطأ فقد أضحى آبقا.. كانت تتفنن بتعذيبهم قبل قتلهم أما جثثهم فتأمر بإخفائها في الأقبية المنتشرة تحت القصر والتي تنتهي بغرف ترمى فيها دون أن توارى التراب، مما يعني أن منازلنا تقع على أعشاش الموتى.. إنهم يفقسون عن أرواح يحلوا لها الطيران فجرا في بيوتنا(…) وهم ودودون، إنهم ليسوا أرواح وإنما أشباح تفتش عن الر احة في القصاص بمن جعلها تموت دون ذنب” (رشيد ومحمد، 2016) وهذا بالحرف ماورد في المسلسل الذي ترافق أبطاله روح امرأة ثرية هائمة قتلت دون بيان الأسباب لتبقى روحها تسكن المكان مطالبة بالقصاص من قاتليها. ونجد كذلك شخصية (عشتار/ منار) في الرواية تشترك مع شخصية (كريم) في المسلسل في تخيلاتهما المتعلقة بالأشباح والأصوات والكوابيس وحتى حادثة الإغماء فهما يتعرضان لها كليهما، غير أن الفرق بينهما أن (كريم) يدخل الفندق وهو مريض نفسي يعاني هلاوس سمعية بصرية، بينما تدخل (منار) الآفو سليمة تعاني من ضغوط الهجرة وعدم الاستقرار، لكن المجرم في الرواية يضع لها حبوب تصيبها بتلك الهلاوس.

 أما القسم الثاني فيشابه ماورد في الرواية لكن ليس خاصا بها، إذ قد يؤدي سير الأحداث منطقيا في العملين إلى توظيف هذه التفصيلات، والوصول إلى هذه النتائج، ولاسيما أن الأفكار المناقشة في العملين تدور في الفلك نفسه، وهذا نجده مع شخصية (عشتار/منار) في الرواية التي يمكن ربطها مع شخصية (سعدية) في المسلسل ولاسيما في مشهد تسلمها للسكن في الآفو، وأيضا في كون ابنها ليس ابنا بايولوجيا لها، بل هو ابن متبنى، وسعدية تستلم السكن في الفندق بطريقة مشابهة ولها أبناء ليسوا أبناءها بايولوجيا. وأيضا من التشابهات التي يمكن أن نعدها من هذا النوع عدد الشخصيات المتلازمة في الرواية (جلال،عبد الله، نبيل) مع اختلاف التفصيلات نجد أمامنا في المسلسل (سنان، واثق، ماجد)، وأيضا يمكن وضع تحت خانة التشابهات هذه الأقوال التي ترد في الرواية وكتبت في متنها بأقواس اقتبسها الراوي من أدباء وأعلام في مختلف المجالات، نجدها ترد أيضا في العمل المرئي، لكن الفرق أنها ترد على لسان الشخصيات على اعتبار غياب الراوي في العمل المرئي وتنازله عن موقعه للكاميرا، بينما يتمتع بموقعه في العمل الروائي المقروء بكامل ميزاته.

 ومن الطريف أن الأخطاء التي وقع بها العمل المرئي في موقع الراوي ووجهة النظر سبق أن وقع فيها العمل المقروء نفسه، وهذا يتمثل في المشاهد التي كتبها (محمد محسن) إذ يرد بعضها بصيغة المتكلم وبعضها بصيغة الغائب، وهذه الضمائر تعبر عن وجهة النظر الساردة للأحداث، إذ قدم بعضها من الداخل، وقدمت الأخرى من الخارج، وهذا ايضا لاحظناه في العمل المرئي، إذ وجدنا عددا من المقاطع الروائية التي يكتبها (كريم) يكتبها بضمير المتكلم وبعضها الآخر بضمير الغائب.

 ومع إثبات أن العمل المرئي التلفزيوني مأخوذ من العمل الروائي المقروء (عناكب الآفو) لابد أن نشير إلى حقيقة مفادها أن الرواية قد كان لها جوانبها التي تميزت بها، كبناء الشخصيات المتقن والتسلسل المنطقي للأحداث، والاهتمام بالبناء النفسي للشخصيات وربط ما تبديه من ردود أفعالها مع ماتتعرض له من ضغوطات، وسيطرتها على مصائرهم جميعا، فضلا عن تميزها بتقديم قصتين متوازيتين يجمع بينهما زمن واحد وتفصل بينهما أمكنة متعددة، في حبكتين تسيران بالتوازي وتتقدمان مع بعضهما خطوة خطوة. كما أن لها جوانب أخرى أخفقت بها، وأبرزها المبالغة باللغة الشعرية والانزياحات المتتالية في جمل الرواية سردا وحوارا، حتى جاءت جمل الشخصيات جميعها مصاغة بالاسلوب ذاته، الذي صيغت به الجمل السردية والوصفية، وهذه الانزياحات المتتالية أدت بالقارئ إلى الانشغال بها وباستعمالاتها غير المألوفة للغة لتشتت نظره إلى الحدث وترابطه في بعض الأحيان، لابل حتى الكاتب قد وقع في غفلة منه بهذا التشتت عندما أوصل شخصيته الرئيسة (نبيل) إلى بيت (الدكتور حميد وابنته نادية) في نهاية المشهد 26، إذ يقول الراوي: “اتصل بنادية قبل وصوله إلى الآفو لكنها لم ترد، فعاود الاتصال بالدكتور حميد ليخبره بأنه قادم، رد عليه الدكتور حميد بأنهم جميعا بانتظاره،(…) كان يشاور عقله في كل نقطة يقف على حافتها الحادة وهو يراجع موقف نادية من حضوره، ولم يلتفت إلى ممارسات التضليل التي برع فيها جزء قلبه الضعيف اتجاه مشاعر الحب عندما اتخذ سبيل المراوغة في خلق الأعذار والتبريرات الكثيرة…” (رشيد و محمد، 2016)، وينتتهي المشهد دون أي إشارة إلى مغادرة (نبيل) لبيت (نادية) بينما نلتقي به في بداية المشهد التالي 27، يتجول في مدينة أمستردام وأحيائها المتعددة، فكأن الراوي نسي (نبيل) هناك ليعود فيما بعد ويضعه في مكان وزمان مختلفين لاربط منطقي بين الاثنين. وفي سياق متصل باللغة، فإن الرواية وقعت في عدد لايحصى من الأخطاء اللغوية والطباعية والإملائية لاتخفى على أحد. فضلا عن أنها، أي الرواية، وقعت في عدد من حواراتها بالافتعال والمبالغة كما في المشهد 21، الذي أخطأت فيه باسم الشاعر (شيركو بيكس) فورد اسمه في هذا المشهد (فائق بيكس) (رشيد و محمد، 2016).

 وأخيرا لنتفق على أن هذه الإشكالية وهذا الارتباط بين العملين أسدى خدمة كبيرة لكليهما، فكم من مشاهد للمسلسل دفعه الفضول للاطلاع على الرواية وقراءتها بحثا عن حقيقة السرقة، والعكس وارد أيضا، فكم من قارئ للرواية أعاد مشاهدة المسلسل بعد أن قرأها ليجد الحقيقة أو يدلي بدلوه في هذا السياق.ومع الضجة المثارة حول التشابه الكبير والسرقة المدعاة، صار القارئ ضعيف الثقة بالنص الثاني، (الفندق) وصار يبحث عن أي تشابه في ثنايا رواية (عناكب الآفو)، لأنه رسخ في لاوعيه أن الأول مسروق من الثاني، فباتت التشابهات المقصودة وغير المقصودة بعين القارئ شيئا واحدا يثبت أخذ النص المرئي تلفزيونيا من النص المقروء بحذافيره، مع تغييرات تشوش على المشاهد ولا تحيله إلى الرواية لو كان قرأها مسبقا.

إقرأ أيضا