ضمن الموسم الرمضاني الذي تتسابق فيه القنوات التلفزيونية إلى عرض الأحدث والأفضل من أعمال أنتجتها طوال السنة التي سبقته، دخل سباق الدراما العراقية العمل التلفزيوني (الفندق) الذي جنَّسه كاتبه على أنه “رواية تلفزيونية”، وأثار هذا العمل منذ حلقته الأولى الكثير من الجدل في الأوساط الثقافية والفنية وكذلك بين المشاهدين بمختلف مستوياتهم الثقافية، فانقسمت المواقف بين من أصدر حكمه وعبَّر عن رأيه منذ الحلقتين الأولى والثانية وهم أيضا لم يجمعهم رأي واحد وانطلقوا من منطلقات مختلفة فنية وأخلاقية وسياسية، فانقسموا إزاء العمل بين موقفين حانق ومعترض أو مشجع ومادح، بينما اكتفى قسم آخر من المشاهدين بالمتابعة إلى أن استقر العمل منتظرا نهايته لإصدار الحكم وقول الرأي، ومنهم كاتبة هذه الدراسة. فماصلة هذا العمل بالأدب الروائي المعروف؟ ولماذا أُطلقت عليه صفة الرواية التلفزيونية وليس الدراما أو المسلسل التلفزيوني كما هو معتاد عليه؟ ما الأمور التي قرَّبت هذا العمل من النصوص الروائية المقروءة تتمظهر علاقة هذا العمل بالرواية في اتجاهين، الأول الجنس الكتابي الذي صنفه الكاتب ضمنه، وأما الاتجاه الثاني فقضية اقتباسه من عمل روائي عراقي شاع مؤخرا أنه (مسروق) منه. فأما الاتجاه الأول فيمكننا النظر فيه انطلاقا من السؤال أعلاه، بعد أن نبحث في ماهية الرواية التلفزيونية وفي فرقها عن المسلسل التلفزيوني وما علاقتها بالرواية بوصفها جنسا أدبيا مقروءا بعيدا عن الفنون المرئية وقريبا منها في آن واحد.
يطرح الكاتب السوري نهاد سيريس تساؤلا مفاده “هل الرواية التلفزيونية حقيقة أم إننا نطلق على المسلسل التلفزيوني اليومي هذه التسمية كي نرفع من سوية نصوصنا التي نكتبها، على الأقل، بإطلاق التسميات الكبيرة على أشياء أقل منها أهمية؟”
إن الفارق بين المسلسل العادي والرواية التلفزيونية يتطابق مع الفارق بين أفلام المقاولات والأفلام الفنية ومع الفارق بين رواية التسلية التي تكلم عنها ليونيل آيدل وبين الرواية الأدبية الغنية”
غير أن (الفندق) التزم من سمات الرواية التلفزيونية انه بني على أساس وحدة الزمان والمكان والبيئة وأخفق في اللغة والثقافة الشفوية من وجهة نظرنا ولاسيما في شخصية (ماري) التي لعبت دورها (سناء عبد الرحمن)، فضلا عن أن العمل طرح عددا كبيرا من القضايا الفكرية والسياسية السائدة في المجتمع العراقي، حتى أنه تاه في زحمتها فظهرت مجمَّعة على غير هدى وسطحية لاحلول لها ولا نهايات شافية لمشكلات متعددة طرحها العمل كالبطالة، والإدمان، وتجارة الممنوعات، والاتجار بالبشر، وتجارة الأعضاء، فضلا عن سلبيات مواقع التواصل الاجتماعي، والابتزاز، وزنا المحارم، والانتحار، وفساد الطبقة السياسية العراقية والمتعاملين معها، وازدواجية الشخصية العراقية والشخصية المتدينة على وجه التحديد.
أما الاتجاه الثاني في علاقة العمل الدرامي (الفندق) بالرواية، وهو قضية اقتباسه أو أخذه من رواية عراقية سابقة له، فقد صار النقاش قي هذه المسألة مبتذلا جدا على صفحات الجرائد وفي مواقع التواصل الاجتماعي، وخرج من باب الادعاء بأحقية النص ونسبته لشخص بعينه ليصل إلى التطاول والاستهزاء والإساءات الشخصية التي لاتمت للنقد بصلة من قريب ولا من بعيد، ولم تتوقف الاتهامات والمشادات بين المؤلفين فقط وإنما بدأت تطول كل من أصدر حكما في هذا الخصوص سواء مع العمل الروائي المقروء أو مع العمل الدرامي المرئي تلفزيونيا، وهذا ما يرتبط بموضوعية الأحكام ومصداقيتها. ومن البديهي في أي حكم نقدي أن يطَّلع المُوازِن أو المُقارِن بين العملين طرفي النزاع على العملين كليهما، فضلا عن ضرورة أن يتخلص من الدافع الذاتي في الحكم لتصير الموضوعية هي الدافع والمحرك الوحيد للحكم عليهما، وهذا لا يتحقق من وجهة نظري إلا إن نحَّينا المؤلفِينَ عن أن يكونوا أطرافا في المقارنة، واعتمدنا فقط على النصوص الروائي المقروء/التلفزيوني المرئي بقطع الصلة عن مؤلفيهما فهل الثاني مقتبس من الأول أو مبني على أساسه أم لا وما سمة هذا الاقتباس إن كان موجودا أو مانوعه.
والاقتباس عن الأعمال الأدبية يحصره (جانيتي) في ثلاثة و”بالتطبيق الفعلي تقع أغلب الأفلام في مكان ما بين هذه الاصناف”
وإن مررنا بموضوعية على مواضع التشابه بين العملين بعد الاطلاع عليهما ودراستهما تفصيليا، نجدها قسمين، الأول مأخوذ حرفيا من الرواية، كفكرة وجود الشبح وقصته، وكوابيس البطلة (عشتار/منار)، واشياء أخرى انطلاقا من الثيمة الأساسية للرواية، المتمثلة بأن القارئ يقرأ العمل بأكمله ليكتشف في نهايته (المشهد الأخير) أنه وقع في فخ لعبة سردية لعبها المؤلفان بتقديم أحداث متكاملة محبوكة للقارئ من وجهة نظر خارجية بدون تدخل الراوي، وهي أشبه بالرواية بعين الكاميرا، ليكشفا بالنهاية أن كل تلك الأحداث ليست سوى أحداث رواية يكتبها الاثنان، وهذا ما حصل أيضا في العمل التلفزيوني، الذي يقدم في عشرين حلقة أحداثا متعددة ليكتشف المشاهد أخيرا في الحلقة الأخيره انها ليست سوى رواية يكتبها أحدهم. غير أن الرواية التي تكتب في العمل المقروء تكتبها شخصيات من خارجه، أما الرواية في العمل المرئي فتكتبه شخصية من داخل العمل نفسه، وتضع نفسها بطلة فيه، وهذا أيضا من التشابهات إذ وضع أحد المؤلفين نفسه بوصفه شخصية داخل العمل الروائي المقروء. ومن التشابهات الجذرية بين العملين التي اخذها المسلسل حرفيا من الرواية فكرة الأرواح الهائمة، التي يرد سردها تفصيلا في المشهد7 من الرواية، على لسان (زهراء) وهي إحدى الشخصيات التي تسكن مع (عشتار/ منار) في المنزل، تقول: “إن هذه المنازل بنيت على قبور العبيد الذين كانوا يقتلون على يد صاحب القصر في أواخر القرن الثامن عشر، امرأة فاحشة الثراء جميلة، قاسية، انتزعت من قلبها الرحمة، حتى على زوجها وبنتيها تحتكم على عدة هكتارات من مزارع الذرة والبطاطا والشعير وبضعة عشرات من العبيد الذين يطيعونها طاعة عمياء وإن خالف أحدهم أمرها أو أخطأ فقد أضحى آبقا.. كانت تتفنن بتعذيبهم قبل قتلهم أما جثثهم فتأمر بإخفائها في الأقبية المنتشرة تحت القصر والتي تنتهي بغرف ترمى فيها دون أن توارى التراب، مما يعني أن منازلنا تقع على أعشاش الموتى.. إنهم يفقسون عن أرواح يحلوا لها الطيران فجرا في بيوتنا(…) وهم ودودون، إنهم ليسوا أرواح وإنما أشباح تفتش عن الر احة في القصاص بمن جعلها تموت دون ذنب”
أما القسم الثاني فيشابه ماورد في الرواية لكن ليس خاصا بها، إذ قد يؤدي سير الأحداث منطقيا في العملين إلى توظيف هذه التفصيلات، والوصول إلى هذه النتائج، ولاسيما أن الأفكار المناقشة في العملين تدور في الفلك نفسه، وهذا نجده مع شخصية (عشتار/منار) في الرواية التي يمكن ربطها مع شخصية (سعدية) في المسلسل ولاسيما في مشهد تسلمها للسكن في الآفو، وأيضا في كون ابنها ليس ابنا بايولوجيا لها، بل هو ابن متبنى، وسعدية تستلم السكن في الفندق بطريقة مشابهة ولها أبناء ليسوا أبناءها بايولوجيا. وأيضا من التشابهات التي يمكن أن نعدها من هذا النوع عدد الشخصيات المتلازمة في الرواية (جلال،عبد الله، نبيل) مع اختلاف التفصيلات نجد أمامنا في المسلسل (سنان، واثق، ماجد)، وأيضا يمكن وضع تحت خانة التشابهات هذه الأقوال التي ترد في الرواية وكتبت في متنها بأقواس اقتبسها الراوي من أدباء وأعلام في مختلف المجالات، نجدها ترد أيضا في العمل المرئي، لكن الفرق أنها ترد على لسان الشخصيات على اعتبار غياب الراوي في العمل المرئي وتنازله عن موقعه للكاميرا، بينما يتمتع بموقعه في العمل الروائي المقروء بكامل ميزاته.
ومن الطريف أن الأخطاء التي وقع بها العمل المرئي في موقع الراوي ووجهة النظر سبق أن وقع فيها العمل المقروء نفسه، وهذا يتمثل في المشاهد التي كتبها (محمد محسن) إذ يرد بعضها بصيغة المتكلم وبعضها بصيغة الغائب، وهذه الضمائر تعبر عن وجهة النظر الساردة للأحداث، إذ قدم بعضها من الداخل، وقدمت الأخرى من الخارج، وهذا ايضا لاحظناه في العمل المرئي، إذ وجدنا عددا من المقاطع الروائية التي يكتبها (كريم) يكتبها بضمير المتكلم وبعضها الآخر بضمير الغائب.
ومع إثبات أن العمل المرئي التلفزيوني مأخوذ من العمل الروائي المقروء (عناكب الآفو) لابد أن نشير إلى حقيقة مفادها أن الرواية قد كان لها جوانبها التي تميزت بها، كبناء الشخصيات المتقن والتسلسل المنطقي للأحداث، والاهتمام بالبناء النفسي للشخصيات وربط ما تبديه من ردود أفعالها مع ماتتعرض له من ضغوطات، وسيطرتها على مصائرهم جميعا، فضلا عن تميزها بتقديم قصتين متوازيتين يجمع بينهما زمن واحد وتفصل بينهما أمكنة متعددة، في حبكتين تسيران بالتوازي وتتقدمان مع بعضهما خطوة خطوة. كما أن لها جوانب أخرى أخفقت بها، وأبرزها المبالغة باللغة الشعرية والانزياحات المتتالية في جمل الرواية سردا وحوارا، حتى جاءت جمل الشخصيات جميعها مصاغة بالاسلوب ذاته، الذي صيغت به الجمل السردية والوصفية، وهذه الانزياحات المتتالية أدت بالقارئ إلى الانشغال بها وباستعمالاتها غير المألوفة للغة لتشتت نظره إلى الحدث وترابطه في بعض الأحيان، لابل حتى الكاتب قد وقع في غفلة منه بهذا التشتت عندما أوصل شخصيته الرئيسة (نبيل) إلى بيت (الدكتور حميد وابنته نادية) في نهاية المشهد 26، إذ يقول الراوي: “اتصل بنادية قبل وصوله إلى الآفو لكنها لم ترد، فعاود الاتصال بالدكتور حميد ليخبره بأنه قادم، رد عليه الدكتور حميد بأنهم جميعا بانتظاره،(…) كان يشاور عقله في كل نقطة يقف على حافتها الحادة وهو يراجع موقف نادية من حضوره، ولم يلتفت إلى ممارسات التضليل التي برع فيها جزء قلبه الضعيف اتجاه مشاعر الحب عندما اتخذ سبيل المراوغة في خلق الأعذار والتبريرات الكثيرة…”
وأخيرا لنتفق على أن هذه الإشكالية وهذا الارتباط بين العملين أسدى خدمة كبيرة لكليهما، فكم من مشاهد للمسلسل دفعه الفضول للاطلاع على الرواية وقراءتها بحثا عن حقيقة السرقة، والعكس وارد أيضا، فكم من قارئ للرواية أعاد مشاهدة المسلسل بعد أن قرأها ليجد الحقيقة أو يدلي بدلوه في هذا السياق.ومع الضجة المثارة حول التشابه الكبير والسرقة المدعاة، صار القارئ ضعيف الثقة بالنص الثاني، (الفندق) وصار يبحث عن أي تشابه في ثنايا رواية (عناكب الآفو)، لأنه رسخ في لاوعيه أن الأول مسروق من الثاني، فباتت التشابهات المقصودة وغير المقصودة بعين القارئ شيئا واحدا يثبت أخذ النص المرئي تلفزيونيا من النص المقروء بحذافيره، مع تغييرات تشوش على المشاهد ولا تحيله إلى الرواية لو كان قرأها مسبقا.