القيم البدوية راسخة في حياتنا العامة حتى في الدوائر الحكومية التي تعتبر من معالم الحضارة، فالموظف يعامل المراجعين الـ(عِرف) (ابن ولايته، ابن منطقته، ابن جيرانه، أقاربه، صديقه) غير ما يعامل المراجعين (الغرباء)(1) الذين قد يقصّر بمعاملاتهم في حين يستعجل بمعاملات الـ(عِرف) ولو كانت خارج سياقات القانون! وما أن يُلح عليه المواطن المراجع بتمشية معاملته حتى يرد الموظف بغضب (آني ما اشتغل جوه أيدك، افتهمت) أو قد يطرده (اطلع بره، وين ما تروح تشتكي اشتكي)! في حين أن هذا الموظف معيّن من الحكومة لأجل خدمة المواطن قانونيا، أو يحاول العناد بتأخير معاملته كي يشعر المراجع أن هذا الموظف لا يعمل عند أبيه؟ دون أي احترام للقانون الذي ينظم علاقة التعامل مع المواطن، أي أن القيم البدوية تحل محل القانون في تعامل المواطن مع الموظف أو تعمل بالتوازي مع القانون بينهما؟ والمراجع من جانبه يبحث عن الموظف الـ(عِرف) ويتسابق في الطابور يتدافع أو يحشر نفسه أمام الآخرين كي تتم معاملته بسرعة وفق مبدأ الـ(سَباعية والـ غُلب) البدوي(2) مدعيا أنه مستعجل! وهذه الظاهرة معروفة في الدوائر الحكومية ولها قبول اجتماعي كبير والمعروفة باسم الوساطة والمحسوبية. وقد شخصها عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي، إذ يقول (فما زال الكثيرون من الناس يلهجون بعبارة ابن محلتي وابن ولايتي وابن عشيرتي وقد رأينا اثر ذلك في دوائر الحكومة عندما يحاول الموظف مساعدة ابنة محلته أو ابن بلدته أو ابن عشيرته ويقدم تمشية معاملته على معاملة غيره.)(3)، و(كان الموظف في العهد الوطني يواجه موقفا حرجا في كثير من الأحيان. فهو يقف عند معاملة المراجعين له تجاه ضغطين متضادين. فهو من جهة يجب أن يعامل المراجعين على مستوى واحد لا تمييز فيه حسبما يقضي به مبدأ العدالة والمساواة التي تتظاهر به الدولة ويدعو إليه الرأي العام؛ غير انه من جهة أخرى يجب أن يداري في المعاملة أهل محلته وأقرباءه وأصحابه والذين لهم فضل سابق عليه، حسبما تقضي به القيم المحلية السائدة في مجتمعه.
إن الموظف قد يقف حائرا بين هذين الاتجاهين المتضادين. فإذا هو سار حسب مبدأ العدالة والمساواة أصبح موضع ذم لدى أهل محلته وأقربائه وأصحابه، وإذا سار حسب القيم المحلية أصبح موضع اعتراض ونقد من قبل المراجعين.(4)، إلا أن هناك تغلغلا للقيم البدوية في مفاصل أخرى من أداء الموظفين غير منظورة مثل ظاهرة الواسطة والمحسوبية، وهذه الظاهرة هي رد فعل الموظف البدوي على انتهاك القوانين، حيث يَعتبر الموظف أن انتهاك القانون دون علمه هو استحمار له وغلبة عليه! لكنه لا يبالي إن كان الانتهاك أو المخالفة بعلمه ولمصلحته؟ عندئذ يقوم هو بانتهاك القانون دون أي مشكلة! وسآخذ عينة هي وزارة العدل، دائرة الإصلاح العراقية، حيث وقعت حادثتان انتُهك فيهما القانون، الأولى دخول حبوب مخدرة للسجن والثانية عملية هروب فاشلة للسجناء، وسأبحث رد فعل الحراس عليها تحديدا. جرت الحادثة الأولى عندما ضبط الحراس نزيلا بحوزته حبوبا مخدرة اشتراها من منتسب كان يأتي لزيارته ويرجو الحراس أن يراعوا صحته السيئة ويداروه ويجلبوه للمستشفى الخاص بالسجن لغرض العلاج وكان الحراس يتعاطفون مع هذا السجين، وبعد أن انكشفت الخطة كان رد فعل الحراس غاضبا جدا لكن ليس بسبب انتهاك قانون حظر الحبوب المخدرة كما يبدو، وإنما لأن الحراس قد خُدِعوا و(تقشمروا) من المنتسب الذي استغلهم واستغفلهم، وكما قالوا (ليش هو لوتي، واحنه زواج، يريد ايبيع براسنه حبوب)! أي إن كبرياء الحراس الشخصية هي التي اُنتُهكت وليس القانون! حتى أن أحدهم قال بغضب (والله لو بس ﮔايللي، ﭼان خليته يطببهن) أي السماح للمنتسب بإدخال الحبوب المخدرة في حالة إخباره بالموضوع وعدم استحماره؟! وهذا يعني أن المسألة تحولت من انتهاك قانون إلى انتهاك كبرياء الحراس! فبقية الحراس لم تغضب أو تجرح كبريائها كأقرانهم بل راحوا يعيّرون زملاءهم ساخرين منهم بكلمات (مطاية، غشمه، قشامر، مخربطين) كأنهم لا يتحملون أي مسؤولية لأنهم لم يكونوا المخدوعين! لكن الحراس المخدوعين حاولوا التقليل من هذه الخسارة بالكذب فراح بعضهم يقول (والله عرفت اكو فد شي، هاي السوالف ما تعبر علينه، احنه بايعين ومخلصين)!
أما الحادثة الأخرى وكان رد فعل الحراس فيها مشابها تماما؛ هي عملية هروب فاشلة عن طريق حفر نفق تحت الأرض قريب من موقع جلوس الحُراس؟ وبعض السجناء الذين حاولوا الهرب كانوا من أصدقاء الحُراس! وحين أحُبطت عملية الهروب فوجئ الحراس وشعروا بالاستغفال والاستحمار، فقد اعتبروا المحاولة مسألة خداع شخصي بين السجين والحارس الذي كان (يثق) بالسجين! والسجين هو الذي خان الثقة! أي أن الحُراس (انضحك عليهم أو مضحكة أو زواج) والسجناء هم الـ(لوتيه) لأنهم كانوا يسيرون من تحت أقدامهم دون أن يعلموا كما قالوا؟ مع ملاحظة استخدام الحارس صيغة الـ(نحن) وليس (الأنا) الفردي للتقليل من جرح الكبرياء! بالتالي فالخلل بالسجين الذي خان الثقة وليس بالحارس الذي منح الثقة له! متجاهلا أن منح الثقة للسجين هو خرق للقانون بحد ذاته؟ انه يبرئ نفسه ويحمل مسؤولية الخلل للسجين، فراح الحُراس ينعتون السجناء (يا عديمي الثقة) وكأن للسجين ثقة ثم فقدها؟ وقام بعض الحُراس بتحميل الخلل إلى الأقسام البقية لتبرئة أنفسهم من أي مسؤولية وكذلك قامت بقية الأقسام الأخرى بإلقاء المسؤولية على الحُراس؟ إنها أشبه بجمرة تتقاذفها الأيدي، فالحراس تعاملوا مع السجناء وفق مبدأ عدم خيانة الزاد والملح الذي بينهم، والخيانة للجبان وليس للرجل الشجاع وفق المنطق البدوي، ولم يعيروا خصوصية الوضع الأمني والاجتماعي بالسجون المختلف عن الحياة المدنية اهتماما كبيرا.
هذه القيم البدوية نجدها في التفتيش الأمني الذي يخضع له الحُراس في أثناء دخولهم الدائرة، فالحارس ما إن يدخل على المفتش حتى يبتسم ويثني على جهده المبذول قائلا (الله يساعدك على هذا التعب) ويتعامل معه بأدب وطاعة، والمفتش من جهته يكون حريصا أن لا يخدعه الحارس بإخفاء الممنوعات عنه وإدخالها، لأن بعض الحُراس يتفنن بإخفاء الممنوعات ليتفاخر بعدها قائلا (قشمرتهم) أو (ذولة شنو المضارطة، والله ماﯿﮔدرولي) فالمفتش لا يريد أن يكون مُغفلا و(غشيما) و(قشمر) في نظر الحُراس، بل يجب أن يكون (أسبع) منهم و(ﻨﭽر ﻤﯿﻨﮕدر عليه)، ولو أخبره الحارس بالممنوعات فإنه قد يدخلها، وسيكون إدخالها بعلمه أهون عليه من إدخالها دون علمه واستحماره، أما حين يفشل الحارس بإدخال الممنوعات فانه يشتم المفتش في ما بعد ويكذب تعويضا عن هزيمته، فيدعي بعضهم بأنه ألقى الممنوعات في النفايات وأمام نظر المُفتش احتقارا له على ألا يعطيها للمفتش.
ما أقصده من هذا المقال هو عدم استبدال القانون بالقيم البدوية في تعاملاتنا مع المراجعين، ويجب أن تعامل هذه المخالفات والانتهاكات للقانون ليس من منظور بدوي شخصي قائم على رد الفعل والغلبة والكبرياء والسباعية، أي عدم شخصنة القانون بكبريائنا، بل على احترام القانون بذاته والمسؤولية الجماعية في تنفيذ القانون والنظام حتى نرتقي بأدائنا الوظيفي لمستوى حضاري مرموق، لأن القانون هو الأساس الذي تبنى عليه الدول الناجحة، وبدل استخدام كلمات (زوجونه، قشمرونه، ضحكوا علينه، ما اشتغل جوه ايدك) علينا إبدالها بكلمات (انتهكوا، خالفوا، خرقوا القانون، أخدمك بالقانون) بسبب (تهاوننا، غفلتنا، عدم التزامنا، تقصيرنا، وجود فساد، سوء إدارة الخ) لنتعامل مع الانتهاكات بموضوعية مهنية.
تصح هذه الكلمة في سياق العصبية القبلية التي تقسم جماعتها إلى أقارب وغرباء، أي ثنائية نحن وهم، أنا والآخر، وهذا تقسيم قديم تم استبداله بالمواطنة.
نسبة لكلمة (سبع) وجاءت من تسمية حيوان الأسد لكونه أشرس الحيوانات، فسمي (السبع) عند البدو ثم أطلقت على كل إنسان شجاع وناجح وشاطر وعملي وداهية في حياته بغض النظر عن أخلاقه.
د.علي الوردي، في الطبيعة البشرية، محاولة في فهم ما جرى، تقديم سعد البزاز، الناشر مؤسسة المحبين، ص147.
المصدر السابق، ص146.
* كاتب عراقي