رواية شتات نينوى هي الرواية الرابعة للكاتبة الموصلية غادة صديق رسول، وكنت قرأت للكاتبة روايتها ( اجمل كابوس في العالم) الصادرة سنة 2014 عن دار الفارابي، فكانت رواية جيدة البناء من ناحية اكتمال الشخصيات وتسلسل الاحداث، ورسم بنية الزمان والمكان، لكن الامر اختلف تماما مع رواية شتات نينوى، فالرواية تعاني من بناء فضفاض ومترهل يشمل كل عناصر بناء الرواية. ورغم اني لااكتب عادة عن نص لا ارى انه مكتمل البناء او على الاقل تزيد عناصر الضعف فيه عن عناصر الجودة، لكني في هذا المقال اثرت ان لا اصمت وان اوضح جوانب الضعف في هذه الرواية لعل هذه المحاولة تعرف القارئ بما يجعل من عمل سردي رواية فنية، وما الامور التي تحول مسار رواية ناجحة الى نص اخباري لايمت للرواية بصلة.لاسيما وقد انتشرت الان نصوص تروي اخبارا واحداثا بلاحبكة ولا بناء وتذيل بعبارة رواية وليس لها من الرواية شيء. مبدئيا لابد ان نفرق بين الحدث الاخباري والحدث الروائي فالاول ينقل الخبر كما هو معروف للجميع ويفيد التبليغ والاعلام وحسب، اما الحدث الروائي فانه يتضمن الظروف التي ادت الى وقوع هذا الحدث من كل الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والكاتب يقدم هذه الاحداث ويحللها وفقا لامكانات الشخصيات، ويرشد القارئ الى النتائج، دون ان يقحم نفسه في الاحداث ويبالغ في التعليل والتفسير، وينتقي من الواقع مايعلو بالفن الى مستوى الخيال الروائي الخلاق. وكي يكون الكلام اكثر دقة سأضع في نقاط اهم اسباب ضعف رواية شتات نينوى واسباب تحولها الى نص اخباري بسيط غابت عنه الفنية الروائية الاحترافية.
اولا: الحدث الرئيسي في رواية شتات نينوى هو سقوط الموصل بيد داعش واختفاء الحياة كما عرفها الناس وتشتتهم بقاع الارض وفقدانهم محبيهم. لكن الكاتبة بدل الدخول في الحدث الرئيسي مباشرة والتركيز على مفرداته وتفاصيله كتبت فصولا مطولة عن عائلة بطل الرواية احمد في رواية تبدأ من بداية العهد الملكي وصولا للاحتلال الامريكي بعد 2003 وحتى احتلال الموصل 2014 تحدثت عن حياة اسرة بسيطة لارملة مع ولدين احمد واخوه عباس الضرير تتحسن احوال الاسرة الفقيرة بمجيئ الخال الثري الذي يحتضن بنت اخته وولديها.لكن الكاتبة استغرقت 200 صفحة للدخول في حدث الرواية الرئيسي، فتحدثت عن احداث في العهد الملكي وحرب العراق مع ايران في الثمانينيات وبمقاطع وصفية خبرية لاتسمن ولاتغني من جوع من قبيل (( امتلأت الشوارع لافتات سودا تنعى خيرة شبابنا، رملت النساء ويتم الاطفال خلال ثمان سنوات، ثم جاء السلام المؤقت. قالوا اننا انتصرنا، لكننا كنا نعلم ان الحروب غير الدفاعية خاسرة. فخرجنا باسرى حرب ومعوقي حرب، اضافة الى مرضى الحرب النفسيين، ايتام وارامل الحرب وابطال الحرب!))ص:174 .
نص اخر عن الحرب التي اعقبت احتلال العراق للكويت اول التسعينيات من القرن الماضي وهو كسابقه وصف بلا وظيفة ايضا تقول الكاتبة )) تجمعت جيوش اربع وثلاثين دولة، وحشدت طائرات وفرقاطات، ومدافع وعتاد، قوات خاصة، قوات برية وبحرية، دبابات ومدرعات، صواريخ ارض ارض، وارض جو ، وجو ارض، قنابل عنقودية،…الخ)) ص177
ونص عن احداث بعد 2003 (( فيما بعد سوف نكتشف عبر وسائل الاعلام المسموعة والمرئية، ان الفساد يدب في كل الوزارات، استيراد اغذية فاسدة ومنتهية الصلاحية، اسلحة كشف متفجرات لاتكشف عن المتفجرات…الخ)) ص:217
وغيرها من المقاطع الوصفية التي تعجز عن خلق بناء فني خيالي بل تعيق تقدم السرد وتصيبه بالترهل و الثرثرة غير النافعة. ويبقى تأجيل الدخول للحدث الرئيسي نقطة ضعف تصيب العمل باكمله في مقتل لان القارئ سيمل المقدمات الطويل وغالبا يهمل الرواية قبل ان يكملها في عصر صار البحث عن القارئ االصبور أشبه بالبحث عن الكبريت الاحمر.
فالامر المهم في الرواية ذات البعد التاريخي هي ان يصوغ الكاتب حكايته في بناء جديد، ويقدم رؤيته بالانتقاء والفرز من الاحداث الواقعية بما يحول النص الى بناء متخيل متكامل ومتماسك
ثانيا: فضاء الرواية ( الزمان والمكان فيها) عائم جدا فالكاتبة افترضت ان نص الرواية التي تحكي سيرة احمد المهندس من الموصل هو بالاصل مخطوط يعثر عليه الدكتور عبد الله سرمد ويسلمه لدار الفارابي لتقوم بطباعته وافترضت ان طباعة الرواية تمت بعد خمسين عاما من احداث الموصل.دون ان نفهم لماذا مكثت عائلة احمد في تركيا خمسين سنة بعد انتهاء احداث الموصل؟ مقدما لا اعرف سبب هذا الافتراض ولم اجد له اي تبرير فني لاسيما مع قضية المراسلات مع الدار التي امتدحت الرواية التي تطبعها وقدمت رأيها فيها بطريقة غريبة وغير مبررة.
كما ان المرور على ازمان سابقة للحدث الرئيسي لم يكن ناجحا كما اسلفنا. استخدمت الكاتبة استباقات زمنية كثيرة مثل “بعد ان اتجاوز الستين سأصاب بجلطة خطيرة، وسأرى الملائكة من حولي” ص:166، لكن هذه الاستباقات لم تحمل اي وظيفة في بناء الرواية ولا اي محمول رمزي ممكن يضيف تقدما لبناء الزمن في الرواية.
الاشكال الاكبر في هذه الرواية هو بناء المكان الذي مر من بين يدي الكاتبة كما الماء في الغربال، القارئ يتشوق لوصف الامكنة ورسمها كما لم يعرفها الا اهلها.. ازقة الموصل وعوجاتها عمارة الابنية التي تميز الموصل الشقوق في الجدران والنقوش في الابواب، رائحة المكان، الجوامع والمزارات هذه الامكنة التي درست بعد نكبة الموصل بحاجة لادباء تشتعل ذاكرتهم بحب الموصل ليرسموها لنا ويقدمونها قصيدة مكتوبة بنبض القلب قبل الاقلام. حتى مزار الشيخ فتحي الذي يملك اهمية في الرواية لانه موضع بيت احمد لم اقف في الرواية على وصف يقدمه للقراء بطريقة مبهرة ومميزة.
ثالثا: في الرواية تصف الكاتبة باسراف افعال الشخصيات وصفاتها النفسية، وهذا يعد عيبا كبيرا في كتابة الرواية، لان على الكاتب ان يترك الشخصيات تتحرك ويستنتج القارئ صفاتها واحوالها من افعالها، مثلا لانقول (شعر البطل بسعادة غامرة) وانما نترك السعادة تيستنتجها القارئ في افعال الشخصية، الذي حدث في رواية شتات نينوى ان الكاتبة وصفت بطلها بالمكر فيما يزيد عن خمسين مرة، ولم تترك لنا استنتاج مكره من افعاله وظلت على هذا المنوال تصف الشخصيات وتهدر ذكاء قارئها ببساطة مثل قولها في وصف احمد: “ولاني ولد طيب القلب ورقيق” ص:160 ، ونص اخريصف فيه احمد نفسه “اسلوب طيب مثل قلبي”. وغيرها من عبارات تكسر مجرى الافكار وتعوق البناء.
رابعا: حبكة الرواية تقوم على صراع الاخوة احمد وعباس الذي يشبه صراع هابيل وقابيل على المراة, فاحمد يحب فاتن وعباس يحاول انتزاعها منه… لكن عباس ظل شخصية نمطية شريرة لم تقدم تبريرات لافعالها كي يكون الصراع مع اخيه اكثر منطقية وتطورا، وانما هي جزء من خبر في الرواية، كذلك شخصية الخال الذي انقذ العائلة بدت مبهمة وغير فاعلة في السرد بل هي العوبة بيد عباس ينقل الوشايات باخيه كيفما يحب والخال يصدق وكانه طفل و ليس تاجرا خبيرا وعارفا مجربا. تحتاج الشخصيات الى عمق اكثر حتى تتطور لكن يبدو ان الطابع الخبري في النص اثر على بناء الشخصيات ايضا.
وحدها الخالة شكرية كانت مقنعة وحرة في الرواية تعرفنا على شخصيتها من افعالها وتطورت عبر الرواية بشكل تدريجي لتعكس المزيج الاجتماعي المعقد في مدينة الموصل بين المسلمين والمسيحيين.
اخيرا احسب ان هذه الرواية كتبت تحت ضغط هول كارثة سقوط الموصل على سيدة مرهفة الحس عاشت في الموصل ودرست وعملت وتزوجت وانجبت، فاثقلت الغربة وجدانها، لذا جاء هذا النص غير محكم عكس نصوص اخرى كتبتها، وتظل الكتابة التاريخية الروائية من اصعب انواع الكتابة لانها تحتاج الى مهارات عالية وفترة تأمل تبعد الكاتب عن الحدث وتفصل بينهما حتى يتمكن من السيطرة على الجانب العاطفي ويركيز في الفن الروائي.
*رواية شتات نينوى، الكاتبة غادة صديق رسول
صدرت عن دار الفارابي/ بيروت/ 2016