اللهجة الهولندية: لغة إلمور ليونارد

إلمور ليونارد الذي توفي الإثنين الماضي 19 أغسطس, عن عمر ناهز السابعة والثمانين, كان يعتبر واحداً من أفضل كتّاب رواية الجريمة في الولايات المتحدة الأميركية. كان واحداً من أفضل الكتّاب, وشاءت الصدفة أن يكتب عن الجريمة، الا أن هذه المصادفة لم تكن دقيقة تماماً. صحيح أن رواياته (أكثر من أربعين رواية, ومنها رواية تركها دون أن ينهيها قبل وفاته)، تضم مجموعة من المجرمين وأولئك الذين يحاولون منعهم عن مساراتهم، الا أن هذا كان نادر الحدوث، منذ أن ابتهج ليونارد في أن يبين لنا بأن الجريمة ــ أكثر من أي شيء آخر, وحتى أكثر من السياسة ــ تسمح للرجال من جميع الأعمار بأن يداعبوا أنفسهم عن طريق بيئة زاخرة بالحماقات. 

ولكن، هناك شيء, عندما يرتبك الناس وينسجون من خطأ خطأً آخر, فإن الكثير مما يفعلونه, والكثير مما يتحدثون عنه, ليس له علاقة بالجريمة، إستمع لميلاني وفرانك* فقط, في \”التحول\”, هو في المبنى, عاشق غولف أحمق ويمتلك مليون دولار يدخرها في بنك في البهاما، ولا أحد يعرف بذلك, وهي فتاته الشابة هناك في أسفل المبنى, أو هكذا يجب أن يعتقد. يعودون في وقت متأخر من الكازينو. تستلقي هي على الأريكة, تقلب صفحات مجلة W وتبدأ بترتيل أسماء بصوت عالٍ:

\”ديانا فريلاند\”

\”لم أسمع بها أبداً\”

\”بيتي باكال\”

تقصدين لورين باكال؟\” سأل فرانك

\”نفسها\” قالت ميلاني, \”إيفس لورانت\”

\”هو الرجل الذي يصنع الملابس, الملابس النسائية\”

\”جورجيا أوكيف\”

\”يبدو أنها راقصة\”

\”خطأ. جيانكارلو جيانيني\” 

\”مغني أوبرا\”

\”خطأ. جين مورو\”

\”هو… كاتب\”

\”إنها ممثلة. جيروم روبنز\”

\”ومن يعرف؟\”

\”لقد اخترت لك أسماءً سهلة. حسناً, بات باكلي\”

\”أنه, هذا الذي وجه لكمة رائعة, ما هو اسمه, في التلفزيون\”

\”زوجته إسمها بات… لولو دي لافاليز\”

\”لأجل المسيح\”، قال فرانك.

وكالعادة, في عالم ليونارد ــ وهذا جانب يشاد به من أعماله ــ النساء, من خلال الفطرة ومن خلال المعاملة القذرة التي يميل المجتمع الى التعامل بها معهن, يتغلبن على فكر الرجال. نعرف ذلك بكل بساطة من الطريقة التي امتحنت ميلاني فيها فرانك عن تلك الشخصيات المشهورة, لكي ندرك أن زيارتها القصيرة تلك من أجل أن تبارك معرفته، وهي أقل من الصفر, والتنبؤ بخطتها: أن تجعله خاتماً في إصبعها وتعفيه عن المزيد من التخمين.

رواية \”التحول\” The Switch, صدرت في 1978. ليونارد (أو الهولندي, كما يسميه أصدقاؤه) كتب عن رعاة البقر منذ بداية الخمسينيات, لكن انتقاله الى حاملي السلاح المعاصرين، بدأ مع \”The Big Bounce\” في 1969, وبحلول أواخر السبعينيات كان ليونارد في أوج نشاطه. الكفاءة لا تتطلب زخرفة في الأسلوب, ناهيك عن التجميل, العجز عن التزيين, أختار ليونارد أن يحلق ويشذب حتى انتهى به الأمر مع أناس من مثل ميلاني وفرانك. أما بالنسبة لحديثهما, فكان أشبه بلعبة كرة الطاولة, صيغة جافة انتهت بالتعادل: إذا أردت وصم محادثة كوميدية, بكل رتوشها الممزقة, فأين كنت ستذهب قبل أن تعرف ليونارد؟ بالتأكيد الى ايفلين وو.

بمجرد أن تسمع اللهجة الهولندية, لن تستطيع إخراجها من رأسك, والكثير من القراء أصبحت هذه اللهجة مثل أغنية ساحرة لهم. لقد وقعتُ فريستها في منتصف الثمانينات. ليونارد كان لديه اختراق مع \”الواجهة\” GlitZ في 1985, وأدى ذلك بالكثير منا الى مداهمة التسويق القديم بسرور. بعض الكتب لم يكن من السهل الحصول عليها, والمطاردة تشحذ حماسنا فقط. أنا وصديقي التهمنا بشراهة كل ما وقع بأيدينا من روايات ليونارد, هذا غريب, فبمجرد ان تتاثر بكاتب أو رسام أو موسيقي حتى تركض وراءه وتسعى لشراء كل انتاجه، ونادراً ما تنجح في ذلك, وحتى الرغبة في التكامل هي نوع من الحب, ينمو بسرعة ولكن لا يُنسى. غالباً ما أكافح الموت في هذه الموضة, ولكن ليونارد قد يكون الكاتب الوحيد الذي دفعني لهذه الحالة.

مشكلة واحدة كانت، وهي أن صفحة واحدة من كتابه جعلت الكتّاب الآخرين, خاصة الأسمى والأكثر إشادة, يبدون واضحين كصمغ ورق الحائط. أتذكر \”البحر, البحر\” لــ إيريس مردوخ التي فازت بجائزة البوكر في 1978. أستقبلت الرواية بحرارة, لذا لم أضيع الوقت واستلقيت جنباً الى جنب مع رواية \”التحول\” التي صدرت بنفس السنة. وإليك عينة عشوائية من السيدة إيريس:

\”آه, كان غامضاً, غامضاً, حساساً, وفخورا، يجب أن أسيطر عليه, يجب أن أكون لبقاً, حذراً, لطيفاً, حازماً, يجب أن أفهم كل شيء. كل شيء, كل شيء, شعرت الآن بأني اعتمدت على تيتوس, كان هو محور العالم, كان هو المفتاح. كنت منشغلاً بمشاعر الألم والبهجة والحاجة الفعلية الى إخفائها, يمكنني بسهولة, هنا, أن أُرعب, أشتم, أشمئز\”.

ها؟ إنها مثل استيعاب الحياة من خلال ذاكرة ضخمة. كيف لنا أن نفترض العمل مع أي قدر, ماذا يعني هؤلاء الزملاء بذلك, بقناع النحيب اللفظي هذا؟ في غضون ذلك, أقرأ من ديترويت:

\”لقد لاحظت في طريقي\”، قال اورديل الى لويس \”بأنه قد حصل على سيارة MC Hornet, رجل أسود نقي, لا شيء في الخارج على الإطلاق, سيارتك بدون علامات. لكن في الداخل ـ أخبره, ريتشارد\”.

قال ريتشارد: \”حسناً, حصلت على رولبار, حصلت على مهمة غابرييل ستريدرز الثقيلة, وحصلت على كمية من الأسلحة\”.

\”وقد يحصل على واحدة من هذه الفلاشات\” قال أورديل, \”وصل كوجاك, وضعها على سطحه؟\”

\”كرة نارية كبيرة مع قاع مغناطيسي, دعنا نرى\” قال ريتشارد, \”حصلت على مكبرات صوت, يمكنك أن تصنع صوت نحيب, عويل, أو مرحباً. حسناً, في صندوق السيارة أحتفظ بالقنابل الغازية, وبعض المعدات الأخرى. ليلة شغب. قناع غاز M-17.\” فكر للحظة, ثم قال \”حصلت على قراب مسدس من الذي يوضع حول الركبة, هل سبق لك أن رأيت واحدا مثله؟\”

كن عادلاً, الآن: أيهما أفضل, السيدة أم الهولندي؟ أترك جانباً كل خيلاء وعكسها (لبنية واقعية, أنيقة أو فظة, هو التفوق الجوهري لأي منهما)، من كان منهما على استعداد لإحياء الجمل الإنكليزية ـــ ارتفاعها, سقوطها, فشلها, والتوقف في حالات الطوارئ؟ أنت تعرف الجواب. إجابتك توفر لي الكثير من الوقت الضائع مع روايات بوكر, سواء الفائزة أم المرشحة. ثم كما هو الحال الآن. عقود ولا زلت أضحك على أسلوب كوجاك, وسهولة أن نتصور كيف يتعامل كاتب غير ملائم أو أقل مغامرة مع نفس الفكرة. \”إنه النوع الذي يملكه كوجاك في التلفزيون. وصل ووضعه على السطح\” هل رأيت؟ الموت عند الوصول. لكن الأسلوب ليس كل شيء: ما هو أكثر غموضاً هو ما يشع من مثل هذه السيطرة الفنية, وسط الكلام, وإضافة طاقة هائلة لأصحاب الأفواه. المقطع من كتاب مردوخ قال الكثير, لكنه تركنا جاهلين تماماً لشخصية تيتوس والراوي, ولم يستحقا مكاناً لهما في عقلنا. في حين اورديل في بضع ضربات بارعة, حرض ريتشارد, وريتشارد نفسه, حتى من العبارة \”فكر للحظة\”، وضعنا على الفور في وجود أحمق ــ شرطي متمنٍ, يجمع تذكارات النازيين. الشخصية هي اللغة في الحدث.

أحياناً, الكلمة تعني الكثير. ليونارد يمكنه أن يضع فعلا بكلمة واحدة أو صفحة، عندما تكون الكلمة هي المقصودة. \”ماذا في جحيم الألباني؟\” رجل يدعى كليمنت يسأل في الفصل الرابع من “City Primeval” في 1980. منضدو الحروف المطبعية على وشك أن يرتكبوا خطأً مطبعياً, لكن ليونارد لم يسئ الفهم أبداً. في هذا الصدد, كما في غيره, كان أقل شبهاً بهمنغواي ـــ وهو كان من معجبيه, وكان غالباً ما يقارن به ـــ منه الى ديكنز, طفل مدينة آخر مع أنفه وأذنه الى الأرض. جرب \”أوراق بيكويك\”:

\”ما الذي تقوله في استثناء البيرة, سيدي الجنرال؟\” اقترح الرجل ذات الوجه المرقش.

\”وقليل من لحوم البقر الباردة\” قال حوذي ثانٍ.

\”أو, المحار\” أضاف ثالث, كان رجلاً فظاً.

دليل على عبقرية أدبية, أو ربما تقول: \”كرم ديمقراطي\”، إذا ما قارنته مع لسان أمك ــ الإقتناع بأن كل جزء أو حرف من الكلام, قد يكون متواضعا جداً, لكن من الممكن استخدامه بشكل مثمر. إذا كان هذا يعني تشذيب مادة مجهولة, تتركنا مع الألباني والمحار, فليكن ذلك. لن نخسر شيئا. ريتشارد من جديد, أشار الى تعبيرات رسمية في تقرير البوليس: \”لقد طِفت الشارع والشارع الخلفي للمنزل, المنزل مظلم, لا يوجد أي ضوء مفتوح, ولكن هذا لا يعني أي شيء\” الكثير من الوهم في مساحة صغيرة جداً, ومساحات العجز اللغوي مع شعور طاغٍ, خلال الروايات, بأن قبضتنا على العالم تلك ـــ وهذا ينطبق على كل واحد منا, وليس على المحظوظين والمخادعين فقط ــ هو ليس كما يبدو أو ما نحب أن يكون على الإطلاق. الزواج يتكسر مثل الصحون, أحدهم لا يمتلك مفهوماً عن الحياة بالنسبة للآخر, على الرغم من أنه قد تؤدي الرغبة المحفوفة بالمخاطر الى إيجاد ذلك المفهوم, والكلمات سوف لن تبقى ثابتة. هذا هو السبب الذي جعل الأفلام تستوحي من خيال ليونارد (عدد الكوارث بالأضافة الى عدد النجاحات مثل “Get Shorty,”, “Out of Sight,” و “Jackie Brown,” الذي أعتمد على رواية “Rum Punch”) النضال من أجل منافسة توازنه. الأرواح التي تَفَقدها, حتى عندما لعب الشخصيات ممثلون مثل جورج كلوني وجون ترافولتا, كانت مضطربة وغير باردة الى حد ما. نظرة ليونارد كانت باردة, لكني بكل صدق أقولها, نظرته تحتاج الى كتاب. 

أنا وصديقي, منذ سنوات, توصلنا الى استنتاج بأن أفضل ما في ليونارد يكمن في ما كان آنذاك ماضي: في قائمة عنوانين قصيرة تبدأ من “52 Pick-Up” و “Swag” وحتى “Stick” و “LaBrava” ــ من 1974 وحتى 1983. لازلت أتشبث بتلك القناعة مع حنين مشوش, يستحضر لدينا الولع السابق: لمدة طويلة ننشر الأخبار بحيث يمكن للآخرين مشاركتنا بالمتعة, وعندما يفعلون ذلك نبدأ بتغذية الامتعاض والشك في أن متعتهم سلبية, وليست حقيقية، ولا يمكنهم مبادلتنا جذوة حماسنا. نعم “Freaky Deaky” 1988, “Maximum Bob” 1991 و “Riding the Rap” 1991 كلها روايات رائعة لنظرة خاطفة. والمفضل لدى ليونارد نفسه كان “Tishomingo Blues” 2002, لكن عليك التجول في سن العشرين مع كتاب ورقي الغلاف لــ “Stick” تحشره في جيب سترتك. وهل أن الكتب الأخيرة استحضرت عندما كان ليونارد غنياً ومشهوراً؟ نسختي من “Maximum Bob” تتكون من 300 صفحة, ونسختي من  “Mr. Majestyk” 1974, ربما أفضل رواية على الأطلاق كتبت عن مزارع البطيخ, النصف تماماً. ليونارد كان ماهراً في ضبط النفس, لذا فأنني لا أستطيع مساعدة مشاعري التي تتناسب مع الشكل الأقصر للرواية. سوف تحصل على الكثير من التأثير لكتاب منشور.

التقيت بليونارد مرة واحدة, وقضيت ساعة معه. كان لطيفاً وكلامه ناعم. وأعتز بنسخة من الطبعة الأولى لــ “Freaky Deaky” وقعها بنفسه لي. كما هو متوقع, قال القليل عن نفسه, ومحاولة استرجاع الذاكرة, مهمة مستحيلة تقريباً. عندما أكتشفت في مذكرات أليك غينيس أن الفنان الكبير كان معجبا بليونارد وأنه أخذ “Out of Sight” معه في إجازة لسنة واحدة, هذا الارتباط أدى الى شعور بالكمال. كل رجل كان ماهراً في محو الذات وبمنأى عن بريق الشهرة, قدم كل تبجحه ودهاءه للساحة المهنية, يمكن له أن يتصور ليونارد, مثل جورج سمايلي, وهو يسترق السمع من أطراف الغرفة. لقد رحل الآن, لكنه ترك لنا عزاءً جميلاً: إذا لم تقرأ له من قبل, أو إذا كنت لم تسمع به إلا عند وفاته, أو إذا كنت بحاجة الى مجرد تقديم العزاء بشكل مناسب, التقط إذاً “52 Pick-Up,” “LaBrava,” “Swag,” أو “Glitz,” واستمع الى ما يطربك من الأصوات الأميركية ــ دعوة بصوت عالٍ واضح, وبعيداً عن قواعد اللغة الى حد كبير, من أتلانتيك سيتي, ميامي, هوليوود, ومن منزله في ديترويت. إلمور ليونارد حصل على حقوق رواياته ويفتخر بها. كما قال كليمنت, كان كاتباً.

المصدر: نيويوركر

إلمور ليونارد: (1925 ــ 2013) روائي وكاتب سيناريو أميركي, تخصص في كتابة روايات الجريمة والإثارة, والكثير من رواياته تحولت الى أفلام سينمائية.

إقرأ أيضا