تنسج المدرسة فضاءها السردي المميز في ذهن الفرد، وتتعالق مع خيوطه الدقيقة المتشابكة، لتستقرّ في أعماقه مكاناً أثيراً وحميماً، يحضر كلما مرّ ذكرُ المدرسة، أيّة مدرسة، أو خطر ما يشير إليها. فما يلبث أن يتراءى ذلك الانطباع الأول الذي تركته أيامها الخوالي، ولن يزول. مستعيداً صورة التلميذ الصغير الذي كان.
حكايات الحرف والكلمة، الرقم والعلامة، الرسمة والصوت والنشيد. تختلط الألوان بالأصوات على صفحات الذاكرة. الذاكرة وهي تفعل فعلها بتلك الوجوه الصغيرة الناعمة التي كانت غرفة الصف وساحة المدرسة تزدحمان بتعابيرها ونظراتها الساذَجة ودوافعها البريئة.
المدرسة، دائماً، ستبدو في الذاكرة، أكبر مما هي عليه في الحقيقة، كثيرون كتبوا ذلك وقالوه، بصفوفها وساحتها الشاسعة ومقاعدها الكبيرة، ومعلميها الذين يبدون أطول مما هم عليه. المعلمون بأصواتهم الصادحة في فضاء الصف، وقاماتهم الباذخة، وهم يرسمون الحروف والكلمات على اللوحة السوداء، بالطباشير الأبيض والملون، فتطفر أمنية، من هنا أو هناك، في أن يصبح أحدنا مثلهم يوماً ما، عندما يكبر. ولكن هل تقلّص حجم المدرسة وما فيها مع الأيام والسنين أم أن النظرة هي التي اتسعت؟
المدرسة مضمار سباق للحكايات، وحلبة للتباري والتباهي، يتميز فيها من يبرع في سردها على مسامع الصحب والأقران. يحكي عن سَفرةٍ إلى مدينة أخرى، يحدّثهم عن مشاهداته وما اشتراه وما قام به هناك، فينصتون له بانبهار. يحكي حادثةً قديمةً أو طرفةً سمعها من جدّه أو جدّته، أو يطرح عليهم فزّورة يختلط فيها التلغيز بالحكي، ليدوّخ بها رؤوسهم يوماً أو يومين لعلهم يعثرون على حلٍّ لها. يحدثهم عن مقلب صغير أو شقاوةٍ أو مُشاكَسةٍ أو مَقلبٍ، فيكبر في نظرهم بوصفه الفتى المغامر الذي سيسعون إلى التشبّه به.
في المدرسة تنضج حكايات الفرح أو الحزن، النجاح أو الفشل، الأمل أو القنوط… وتفيض من أيامها رؤى المستقبل، والتطلع لتأثيثه بأحلام وردية جميلة، أحلام اليقظة والمنام على حدٍ سواء، وأحلام تتردد فيها أصداء وقع الخطى الراكضة في ساحة المدرسة، أو الضاربة في الماء الذي يغطّيها مع انهمار قطر المطر، والعيون تتأمل تلك الفقاقيع الصغيرة الطافية هنا وهناك، كمظلات عائمة أو طرابيش نصف كروية، شفافة وتُغري بالنظر… لكنها لا تدوم طويلاً.
المعلمون يستثيرون الحكايات في الصفّ. الدروس المصورة في الكتب المدرسية ليست سوى قصص أو حكايات قصيرة، لطيفة ومحببة، يحفظها الصغار ويترنمون بها، مقلدين الطريقة التي سمعوها بها أول مرة.
عن كل مادة دراسية ستكون هناك قصصٌ مؤجلة، فالتاريخ يثير الغبار في معارك كثيرة امتلأت بها صفحاته، أو وقائع يختلط فيها الواقعي بالمتخيّل، والأدب يسرد حيوات صانعي الدهشة بالكلام، والعلوم تحكي عن تفاحات الفطنة وبراءات الاختراع وتجارب الابتكار.
في ما ترسمه الأقلام وقطع الطباشير على جدران الصف وحيطان المدرسة ثمة حكاياتٌ دفينةٌ، عبثٌ ينتهز غفلة الأعين ليترك للسنين القادمة ذكرى ما. ذكرى من يريد البقاء ولو في أثرٍ عابثٍ زائل.
بعد سنين طويلة، عند العودة إلى المدرسة الأولى، أو المرور قربها، ستكون هناك أكثر من رائحة تستعيد صور أيامها الخوالي، وتثير حكاياها الغائرة في متاهات التذكّر والنسيان. ستطفر مع كل نافذة يقع عليها النظر صيحة صديق قديم، وبضعة أكفٍّ تُلوّح من نافذةٍ ما هناك، ربما في صورة فوتوغرافية أخطأتها أصابع التمزيق. ومن كلّ بابٍ سيُطلّ وجهٌ غائر الملامح، بعد أن جرفت جداول الزمن، بمائها القليل المنساب، أكثر تفاصيله الواضحة.
alidawwd@yahoo.com