لعل واحدة من حسنات النظام العسكري الذي استولى على مقاليد الحكم في مصر، بعد خلع الملك فاروق في يوليو 1956، أنه ترك الجيش بمنأى عن السياسة. قائد الانقلاب العسكري البكباشي جمال عبدالناصر كان مشغولا بالصورة الرومانسية للفكرة القومية، أكثر من انشغاله بتحويل تلك الفكرة إلى حزب سياسي، أو إلى قوة عسكرية، حتى الاتحاد الاشتراكي لم يكن حزبا بالمعنى الحرفي للحزب، كان اشبه بجمعية خيرية للمؤمنين بالفكر الناصري، أما الذين استلموا السلطة بعد عبدالناصر، أنور السادات وحسني مبارك، فكانوا حريصين على أن يكون الانتماء للجيش المصري خارج اللعبة السياسية، كل عسكري مصري يوقع على ذلك بمجرد دخوله السلك العسكري.
ما حصل في العراق كان مختلفا تماما، بعد مقتل الملك فيصل الثاني برصاص العسكر تموز 1958، وسحل رموز وقادة النظام الملكي في شوارع بغداد، والتمثيل بهم بطريقة بشعة، أصبح الجيش بين ليلة وضحاها وكرا خطيرا للمغامرين السياسيين. ضمت ثكناته شيوعيين وقوميين وبعثيين وناصريين وحتى بقايا النازيين. تحول الصراع السياسي بكل ثقله من المجتمع إلى الجيش، كان ذلك بسبب الذهنية المشوشة التي ميزت تصرفات الزعيم عبدالكريم قاسم، لم تكن لدى الرجل بوصلة كبيرة كتلك التي أمسك بها عبدالناصر، كان قاسم بسيطا وساذجا أحيانا على المستوى السياسي. فترك الجيش ساحة لهواة الألعاب النارية. منذ تلك اللحظة أصبح العراق رهينة لنزوات وطموحات العسكر، التي انحصرت بعد حين بين الشيوعيين والقوميين. كل مفاصل الدولة العراقية عملت جاهدة لإرضاء ذوي اللون الخاكي. أعتقد أن أسوأ ما يمكن أن يتعرض له مجتمع أن تتراكم سلطة القوة وقوة السلطة في يد واحدة، عندئد سيكون الحق كله في قبضة واحدة، وسنشهد تناسلا لا نهائيا للدكتاتوريين.. ونحصل على دكتاتور كلما قتل دكتاتور.
عندما استولى صدام حسين (المدني) على السلطة بانقلاب عسكري عام 1968، تماهى تماما مع العسكر، كانت الأرض ممهدة أمامه ليفعل ما يشاء بألوية الجيش العراقي، لأنه كان يدرك أن الجيش هو القوة الوحيدة في المجتمع، لا دستور مستقر، ولا قضاء مستقل، ولا برلمان حقيقي. في ظرف سنوات قليلة حول صدام الجيش برمته إلى خلية حزبية واحدة، كل عسكري لا ينتمي للبعث عليه، أما أن يغادر الجيش أو يموت. لهذا السبب أهمل صدام استقلال القضاء وحصانة البرلمان ولم ينجز دستورا نهائيا للبلاد.
في نيسان 2003 أدرك الأمريكان أنه لا يمكن تحقيق تصورهم للعراق الذي يرغبون بصناعته في ظل وجود الجيش الصدّامي، فككوه ونثروه في شوارع العراق، ضربوا بذلك عصفورين بحجر واحد، وحصلوا على صيغة غريبة: دولة بلا جيش، وجيش بلا دولة، ليس ما هو أكثر متعة، لجنرالاتهم وسياسييهم، من ذلك. بكوادر هذا الجيش المفكك بدأت بواكير الحرب الأهلية الطائفية عام 2004 تحقق للأمريكان الكثير مما أرادوه من الجيش المفكك، ولعل أهم ما كانوا يحلمون به، أن يجر وراءه تفكك المجتمع العراقي برمته على ثلاثة مستويات: طائفي، وقومي، وديني.. حصلت أخطاء لكنها أخطاء جميلة بالمنظور الأمريكي، أخطاء يمكن تجاهلها في ظل الهدف الكبير الذي أفرغوا من أجله الخزينة الأمريكية، وهو أن يفرغ العراق من قوته الاجتماعية تماما، ويبقى بعيدا عن اللعبة السياسية بوجهها المدني. كان الهدف أن يخضع العراقيون إلى لعبة سياسية طائفية بالدرجة الأولى، شكل واهي وهش ومقزز للديمقراطية، وهذا ما نعيش الآن تداعياته الجحيمية في كل لحظة في شوارع العراق.
أعود للجيش المصري، ورغم المحددات التي فرضتها على سلوكه اتفاقية كامب ديفيد، ورغم أن طموحاته السياسية انحسرت بشكل كبير بعد ثورة 25 يناير 2011، فإنه ظل صمام أمان للروح المصرية، ومرجعية وطنية لا يستغنى عنها.
حتى بعد ان استولى الأخوان على السلطة من خلال صناديق الاقتراع، وتحولوا من جماعة سياسية وصلت إلى الحكم بإرادة المصريين، إلى عصابة سياسية في ظرف سنة واحدة فقط، بسبب تكوينهم الفكري وذهنيتهم السلفية، لهذا سقطوا بلمسة سحرية واحدة أداها برشاقة قائد جنرالات الجيش المصري، وبمباركة عشرات الملايين التي ملأت شوارع وساحات مصر.
بسبب كل هذا أدرك الآن أن التشرذم الطائفي العراقي لا يمكن كبح جماحه بسهولة لسبيين، الأول: لا يوجد لدينا جيش كالجيش المصري، يمتلك حسا مرهفا بالوطنية العراقية، ولا حسا واضحا بالخطر الذي يمكن أن يشكله السياسيون المختبئون وراء جبة الدين والطائفة، والثاني ليس لدينا نصف مليون عراقي قادرون على الاعتصام سلميا حول فكرة (العراق) في ساحة التحرير ببغداد.