يشكل مرور 20 عاما على الغزو الأميركي وزوال النظام السابق وانطلاق عهد جديد في العراق، مفصلا مناسبا لتقييم أمور عدّة، بينها تقلبات ممثلي المكونات السياسيين في العملية الجديدة.
اعتمد العهد الجديد الذي حلّ محل النظام الشمولي السابق، نظام الحزب الواحد والرجل الواحد، اعتمد توزيع السلطة على مكونات المجتمع العراقي-المحاصصة- وخصوصاً الرئيسة منها، أو التي اعتُمد أنها رئيسة نظرا لأغلبيتها مقارنةً بمكونات كثيرة أخرى صنّفها النظام كأقليات.
وشكّل الكرد ركيزة أساسية في التقسيم الهوياتي الجديد لجمهورية ما بعد 2003 عبر تحالف كردستاني تشكّل لجني ثمار سنوات من المعارضة وعقود من تضحية أبناء كردستان في مقارعة الأنظمة العراقية المتعاقبة، لكن هذا التحالف، كما حقق مكاسب دستورية وقومية وامتيازات حزبية دسمة، أخفق في قضايا أخرى حتى بدأ بالانهيار منذ بداية الدورة البرلمانية السابقة (2018_2022) وتحديدا في محطة انتخاب رئيس الجمهورية وعدم الاتفاق على مرشح واحد وتقديم مرشحين اثنين: (برهم صالح) عن الاتحاد الوطني الكردستاني و(فؤاد حسين) عن الحزب الديمقراطي الكردستاني ليستمر التراجع حتى الوصول إلى قطيعة سياسية.
يعود تاريخ تناحر القطبين الكرديين الديمقراطي والاتحاد لنحو 60 عاماً، صراع وصل حدّ حروب داخلية دموية -حرب الأخوة- مرّات لا مرّة، كانت أشدها بين عامي 1994_1996 إلى أن اضطرا للصلح عام 1998 تحت ضغط أميركي عبر “اتفاقية واشنطن”، وتوّجا هذا الصلح بتوحيد شكلي لإدارتيهما الحكوميتين عام 2005 واتفاقهما على تقاسم مناصب بغداد وكردستان بالتراضي كامتداد للنظام الكردي المحلي المعروف بـ (50_50)، لكن تغيير موازين القوى وظهور متغيرات جديدة على الساحة الكردية أحرج هذا التقاسم، ليدخل الإقليم مخاضاً عسيراً لولادة نظام جديد، يصر الديمقراطي الكردستاني أن يكون سيداً فيه بحصة الأسد من دون منازع فيما يحاول حليفه الخصم، الاتحاد الوطني، مقاومة ذلك بشتى الطرق.
يستند الحزب الديمقراطي الكردستاني، في بسط الهيمنة، على الإقليم وتجاوز الاتحاد الوطني الى نقاط قوة وأرواق يمتلكها، تبدأ بالأغلبية العددية لأصواته ومقاعده في برلمانَي بغداد (31) مقابل (17) للاتحاد، وإقليم كردستان (45) مقابل (18) مرورا بسيطرته على العاصمة الكردية (أربيل) وما تحتويه من شبكة العلاقات الدبلوماسية والشركات الأجنبية فضلا عن النفط والسيطرة على الملف الأمني باعتباره المتمسك برئاستي الإقليم وحكومته، بالإضافة إلى بناء شبكة من التحالفات المحلية مع الاقليات والأحزاب الصغيرة بينها أحزاب وفئات تقيم في معقل الاتحاد في محافظة السليمانية، ومقابل هذا يحاول الاتحاد، الذي فقد زعيمه الكاريزمي جلال طالباني بوفاته في أكتوبر 2017، والذي يعاني انشقاقات وصراع أجنحة عمره نحو 15 عاماً، يحاول الوقوف بوجه الديمقراطي عبر التمسك بالجغرافيا ومنطقة النفوذ (السليمانية وتوابعها) والاستقواء بمكانته وعلاقاته مع طهران وحلفائها في بغداد للوقوف بوجه تمدد نفوذ وقبضة خصمه حتى في معقله التاريخي.
وصلت الانقسامات بين الحزبين الكرديين، اللذين أضيفت لمعادلتهما قوى جديدة معارضة -(الجيل الجديد) على سبيل المثال- إلى حدّ القطيعة السياسية والحكومية، وتدور رحاها حول تقسيم السلطة والثروات، حيث بلغت الذروة في سباق انتخاب رئيس الجمهورية للدورة الحالية حينما اتهم الديمقراطي خصمه علنا باغتيال ضابط أمني منشق عنه في أربيل، في تطور خطير لعلاقة الحزبين المتوترة من الأساس. ويشهد هذا الانقسام فصولاً خطيرة بين الحين والآخر في ظل هشاشة الأوضاع الكردية التي مازالت تعاني من تداعيات وترسبات مرحلة ما بعد استفتاء الـ 25 سبتمبر 2017 التي انتهت بتحجيم كيان الإقليم وفقدان السيطرة على درّة التاج الكردي المتمثل بمدينة كركوك لصالح القوات العراقية الاتحادية وفي مقدمتها فصائل تابعة للحشد والتي تحولت الى خصم وعدو في بعض الأحيان للقوات الكردية في المناطق السُنية المستعادة من داعش على تخوم الإقليم.
وتشتعل هذه الانقسامات باستمرار في وقت أصدرت هيئة تحكيم دولية في باريس قراراً نهائيا غير قابل للطعن أو التمييز، بضرورة بيع نفط الإقليم عبر الشركة العراقية الوطنية لتسويق النفط “سومو” ليفقد الكرد آخر أوراق لعبة أحلام الاستقلال الذاتي، وسط سخط شعبي داخلي وحسرة على سوء إدارة ملف الطاقة منذ 2009 وانعكاس الإخفاقات النفطية على حياة المواطنين طيلة أعوام 2014 _ 2018. وتدور مخاوف جدية بشأن تأثيرات هذا التناحر العصي، على مناقشات موازنات السنوات الثلاث (2023 ، 2024 ، 2025)، وعلى القضايا الكردية الأخرى ببغداد، في وقت حدد البرنامج الحكومي توقيتات زمنية لحلها، مثل اعادة لجنة المادة 140 الخاصة بكركوك ومناطق النزاع وتشكيل مجلس الاتحاد وإنشاء محكمة اتحادية دستورية وغيرها من الملفات التي تمسّ الوضع الكردي.
يبدو، حسب المعطيات والتجربة، أن النزاعات تتطور باستمرار في ظل عدم وجود سقف لاحتوائها وأن المبادرات الأممية والغربية، وفي مقدمتها الأميركية، لا تفضي لنتيجة. مما جعلها نزاعات مفتوحة على العديد من الاحتمالات السيئة بما في ذلك ضياع تجربة ما بعد 2005 الكردية في حكم الإقليم، وبعثرة أوراق الكرد اتحاديا في بغداد، خصوصاً مع ما تعيشه العاصمة من صراع سياسي وصلت خشونته حد السلاح، وصار تجاهل الدستور وانتقائية القوانين سمة بارزة.
كانت تكمن، نقطة قوة الكرد، في تماسكهم السياسي وعلاقاتهم الخارجية، ومن دونها لا يمكنهم فرض أو تحقيق رغباتهم في “لعبة الأرقام” سواء كان في البرلمان أو مجلس الوزراء خاصة بعدما أمسوا أرقاما في تحالفات كبيرة (التيار_الإطار) بعدما كانوا “أصحاب قضية” وممثلين لأكثر قومية عراقية مدعومة من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، مقابل تنافر شيعي سني من كل ما هو غربي بعد أن حققوا للشيعة المعارضة حلم اسقاط النظام دموي نكل بهم.
تشير المعطيات المتوفرة حتى الآن الى أن احتمالات العودة الى نظام الإدارتين أكثر من احتمالات الالتئام مرة أخرى في ظل استمرار مقاطعة وزراء الاتحاد الوطني جلسات مجلس وزراء الاقليم لشهور عدة، توجت بغياب تام للاتحاد عن حلحلة ملف النفط مع الحكومة الاتحادية، وفي ظل الإصرار على عدم العودة حتى تلبية مطالبهم المتمثل بإعادة تقسيم الثروة والسلطة بين محافظات الإقليم، ما يعني العودة الى نظام القطبين، الذي يعتقد الديمقراطي بأنه اجتازه منذ سنوات حتى قبل ان يدخل الاتحاد في صراع قطبيه الداخليين: بافل طالباني ولاهور شيخ جنكي في الـ8 من تموز 2020.
ترك التشرذم الكردي آثارا سيئة على نفوذهم في بغداد فعلى سبيل المثال خلال عامي 2006-2008 ، وفي خضم الاقتتال الطائفي بين القوى المسلحة الشيعية والسنية أعلن رئيس الوزراء نوري المالكي عن خطة مدعومة من الولايات المتحدة لـ “فرض القانون” و بسبب عدم الثقة في حيادية القوات العراقية المشكلة حديثا وقتها، لجأت الحكومة بدفع أميركي، لإشراك قوات البيشمركة الكردية في حماية أمن العاصمة، فيما تحول حرس البرلمان الاتحادي الى منتسبين من الكرد وفي 2010 أنهت “اتفاقية أربيل” انسدادا سياسيا بوساطة من رئيس الإقليم حينذاك مسعود بارزاني، لكن الآن انقلبت هذه الصورة تماما حيث يحاول رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني لعب دور الوساطة بين محوري أربيل والسليمانية، و يستنجد أطراف الصراع داخل الاتحاد الوطني بمحاكم بغداد لحسم قضية رئاسة حزبهم، ولم يعد الكرد بيضة قبان كما كانوا خلال أعوامهم الذهبية التي تلت 2003.
لا تقتصر الخلافات الكردية على تقسيم السلطة والثروة بل امتد الى فقدان مقومات التقارب والى مبادئ وقضايا أساسية ففي في الدورات الثلاث الأولى للبرلمان العراقي (2005-2018)، كانت الأحزاب الكردية تشارك في الحكومة الاتحادية وفق ورقة مشتركة تتضمن القضايا الجوهرية لإقليم كردستان، لكن فيما لحق، وتحديدا هذه الدورة، فقد الحزبان التماسك السياسي المعهود وانقسما بشأن قضايا كانا متفقين عليها. وتمثل قضية التعامل مع النفط، مثالا واضحا على ذلك، في وقت كانت أولى شحنات النفط المصدر من الإقليم انطلقت عام 2009 بإشراف ومشاركة طالباني وبارزاني، وأُدير بالمحاصصة والتقاسم بين الحزبين لسنوات عدّة.
وكما شددت الممثلة الأممية جنين هينيس بلاسخارت أكثر من مرة، فإن اقليم كردستان أمامه خياران فقط: يمكنه أن يتحد، ويواجه الفساد المنهجي، ويعزز احترام الحقوق والحريات الأساسية، ويحقق تقدما أمنيا واقتصاديا كبيرا، أو أن يفشل في تحقيق ذلك. وأن مستقبل اقليم كردستان في خطر محدق بسبب الصراع العميق الدائر حاليا، لكن المؤشرات، حتى الآن، تقول إن الثاني هو الأقرب للواقع، إلا إذا حدث اختراق سياسي أو ظهرت حلحلة منقذة بناءً على سوابق كردية معهودة. ومن دون ذلك لا مؤشر لعودة المياه الى مجاريها بين الحزبين حتى الآن، ولا ضمان لإجراء الانتخابات النيابية في نهاية 2023 رغم تمديد دورة البرلمان الكردي عاما إضافيا، في خرق فاضح للديمقراطية، وتتسع الهوة بين الفرقاء يوما بعد يوم في ظل تراكم مشاكل سابقة تعاني منها كردستان وباقي المناطق العراقية على السواء مثل بطالة الشباب وتهالك البنى التحتية وتحديات المخدرات والبيئة، وغيرها من أمراض الأنظمة الريعية الزبائنية التي تعتمد على الحلول الآنية والترقيعية للمشاكل.
* اُنجزت المادة بدعم من “نيريج” وتنشر بالتعاون مع “العالم الجديد”.