أود التحدث عن الوضع الموسيقي خلال إقامتي في الإمارات العربية المتحدة، فلحسن حظ الإماراتيين أنهم كان يحكمهم رئيس بسيط ومحب ومخلص لوطه. كل مشروع هناك له علاقة ببناء البلد وتطويره ينفذ وبأسرع وقت، ويتواصل العمل فيه ليلا ونهارا حتى انجازه.
كلنا نعرف أين وصلت الإمارات بين دول العالم المتحضرة، لأن حبهم لوطنهم فوق كل الاعتبارات. هل تعلمون أن الإمارات تخلو من أي مؤسسة (معهد أو كلية) لتدريس الموسيقى تابعة للدولة حتى عام ٢٠٠٧، ما يعني أن الشخص الذي يرغب في تعلم الموسيقى إما أن يذهب إلى معاهد تجارية غايتها الربح المادي فقط أو يضطر للسفر خارج الإمارات كي يتلقى دروسا في الموسيقى. هل تعلمون أيضا بأنه لم يكن هناك أي شخص في الإمارات يحمل شهادة في الموسيقى؟ ومن هذا المنطلق أخذ المسؤولون المعنيون التفكير بجد ليعملوا على افتتاح معهد موسيقي، وعندما سمعوا أن في مصر بيتا للعود العربي صمموا على أن يفتحوا بيتا مماثلا في إمارة أبو ظبي حيث سخروا كل الطاقات والمستلزمات المطلوبة لتأسيسه واتصلوا بالفنان نصير شمة واتفقوا معه وتم كل شيء على ما يرام وبأسرع وقت.
هل تعلمون أن هذه التجربة تحققت في العراق منذ العام ١٩٣٦ حين دعت الحكومة الفنان الكبير الشريف محي الدين حيدر للمجيء إلى العراق كي يفتتح معهدا للموسيقى آنذاك؟ وبالفعل تأسس معهد للموسيقى وبعدها بسنوات تطور وأصبح اسمه معهد الفنون الجميلة -الحالي- وتخرج منه كبار الموسيقيين والفنانين في مجالات فنية أخرى. ومنذ ذلك الوقت تأسست المدرسة العراقية للعود واستمرت حتى وصلت إلينا بأوج عظمتها وأصبحت الرائدة بين مدارس العود في العالم. وبالمقابل تأسست دائرة الفنون الموسيقية في وزارة الثقافة هدفها دعم الفن والفنانين وتنظيم الحركة الموسيقية في العراق، وبفضل وجهود الفنان الكبير منير بشير الذي شغل منصب مدير عام فيها، وفي العام ١٩٧٠ تأسس معهد الدراسات الموسيقية، ومن ثم مدرسة الموسيقى والباليه، وورشة صناعة الآلات الموسيقية، وأسس بشير فرقة التراث وفرقة الإيقاعات العراقية، وبعدها فرقة البيارق وغيرها، وله الدور الرئيس في تنظيم مهرجان بابل الدولي الأول الذي استمر لسنوات عديدة. أما دور معهد الدراسات الموسيقية فكان واضحا جدا، وهو الاهتمام بالتراث الموسيقي العراقي وتدريس العزف على الآلات الموسيقية العراقية التقليدية؛ العود والقانون والناي والجوزة والسنطور، إضافة إلى تدريس المقام العراقي.
لقد تخرج من هذا المعهد كبار الموسيقيين الذين رفدوا الحركة الموسيقية بأعمالهم الخالدة. وكلنا نعرف دور الأساتذة الكبار في مجال الموسيقى، وما قدموه للحركة الموسيقية في العراق، أمثال جميل بشير، وسلمان شكر، وغانم حداد، وروحي الخماش، وشعوبي إبراهيم، وعلي الإمام، وسالم عبد الكريم، وحبيب ظاهر العباس، وغيرهم الكثير. وعندما سُيِّس الفن لخدمة النظام السابق توقفت عجلة الإبداع الفني، وهاجر الفنانون خارج العراق، وبدأ الفن يتراجع.
بعد سقوط النظام (السابق) تأملنا خيرا وقلنا سوف تفتح أبواب جديدة بنفس حضاري جديد، لكن للأسف تحقق العكس. انظروا إلى حال الموسيقى اليوم في العراق، وأين وصل الموسيقي العراقي. وإذا أردنا العودة إلى المقارنة بدولة الإمارات، فسأبدأ بأهم المهرجانات العالمية التي تقام كل سنة هناك، وأهمها مهرجان التسوق في دبي، وليالي دبي، حيث تدعى أكبر الفرق العالمية لتقدم أجمل العروض الفنية التي تفوق الخيال، ويشارك أشهر المغنين العرب، وكذلك الحال في مهرجان الموسيقى الكلاسيكية في أبو ظبي حيث يدعى كبار الموسيقى المعروفين في العالم ليقدموا أروع العروض الموسيقية على مسرح المجمع الثقافي. أما في مهرجان السينما العالمي الذي يقام بدبي، فيشترك كبار نجوم هوليود ومخرجيها، فضلا عن مشاهير الدول الأخرى. وهناك مهرجانات أخرى مثل مهرجان أيام الشارقة المسرحي، ومهرجان الفنون التقليدية في مدينة العين، وغيرها من الفعاليات التي نتابعها عبر الفضائيات اليوم. أما عن التقنيات الموجودة لإقامة الحفلات الموسيقية من مسارح ودور عرض وأجهزة صوت وإنارة فهي من أحدث التقنيات في العالم. وإذا أردنا التحدث عن الوضع الموسيقي والمهرجانات في العراق فحدث ولا حرج. كل التقنيات التي تحدثت عنها بائسة لأسباب لوجستية، من تنظيم إلى مسارح إلى إجهزة صوت إلى منفذين إلى آخره.
القصد من هذا كله، ان العراق يضم علماء ومفكرين ومبدعين في مجال الموسيقى لكنهم مكبلون بأغلال ولا يستطيعون العمل بحرية، كما يعانون الدكتاتورية المسيطرة على دائرة الفنون الموسيقية، أهم صرح موسيقي عراقي الآن، علماً أن سلاح الدائرة هم الموسيقيون لكنهم همشوا وأبعدوا عنها. هل تعلمون أن مديرها العام كان يؤسس فرقة موسيقية لكي يضرب بها فرقة أخرى من نفس الدائرة ذنبها أنها تأسست في عهد مدير عام آخر سبق؟ هل تعلمون أن أي مشروع موسيقي يقابل بالرفض لأسباب غير معروفة؟ هل تعلمون أنه في مدة إدارته أصبح السفر محصورا به فقط لتمثيل العراق في المحافل الدولية كإداري وليس كعازف قانون؟ هل تعلمون أن الفنان أصبح يعمل بمفرده لكي يحقق منجزاته بنفسه بمعزل عن الدائرة، وإذا حصل على دعوة شخصية للمشاركة في مهرجان دولي أو عالمي خارج العراق سوف يصدم بالإجراءات الإدارية ويمكن أن تكلفه عدم الالتحاق بالمهرجان بسبب التأخير المتعمد في انجاز معاملة الإيفاد، علما أنه قد يحصل على موافقة الوزير.
هذه الإدارة دمرت الدائرة وحولتها إلى دائرة لموظفي الحسابات والمهندسين والسواق وعمال الخدمة، وكل هؤلاء ليس لهم علاقة بالفنون الموسيقية، لا من قريب ولا من بعيد، أي لا يوجد موظف موسيقي إلا المدير العام، فهو موسيقي سابق ترك آلة القانون الجميلة ومارس دور القانون السلطوي ونسي نفسه. أتساءل ما انجازاته خلال التسع سنوات؟ مهرجانات بائسة سميت بالأغنية السبعينية والأغنية الثمانينية ومهرجان زرياب؟ جمهورها من موظفي الدائرة الذين يحاسبون إذا لم يحضروا الحفل! هل هذا منطق؟ هل هذا العهد الجديد الذي كنا نحلم به؟
لا وألف لا. كل أحلامنا تتحطم في دائرة الفنون، وكل الأسباب أعلاه جعلت الفنانين ينتفضون على مديرهم الذي جثم على صدورهم ثماني سنوات لتجدد له اليوم ولاية تاسعة.. هذا أمر خطير ويجب التصدي له… موعدنا الجمعة المقبلة في شارع المتنبي.. \”نعم نعم للتغيير\”.
* مدرس آلة العود في جامعة بغداد/ كلية الفنون الجميلة/ قسم الفنون الموسيقية