بين يوم وآخر تصلنا أخبار مؤلمة – تؤكدها وكالات الأنباء – تفيد بقيام عناصر داعش الإرهابية في مدينة الموصل بإقامة حفلات إعدام جماعية. ومن بين الضحايا كان هناك أطباء وطبيبات ونواب ونائبات في البرلمان، ليصل عددهم إلى أكثر من ٤٠ شخصا في الشهرين الماضيين، وهي المدة التي باتت فيها داعش ممسكة بالمدينة. وآخر جرائم داعش تمت في مطلع شهر أيلول الحالي، بالقرب من منطقة باب شمس في الجانب الأيسر من المدينة، عندما رجمَ بالحجارة شابين اثنين أمام انظار الناس – بحجة ارتكابهما فعل الزنى – الى أن توفيا.
ما يثير التساؤل أنّ: كل هذه الجرائم حدثت وما زالت تحدث وليس هنالك من صورة توثقها، إذ لم يتجرَّأ ــ حتى هذه اللحظة ــ أي واحد من أبناء المدينة على التقاط صورة لواحدة من تلك الجرائم وليعرضها فيما بعد، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي؟!
ندرك جيداً وحشيّة داعش تجاه من يفضحها ويواجهها، ومن هنا يتحمل التنظيم مسؤولية كافة عمليات قتل الصحفيين من أبناء الموصل تلك التي جرت في الأعوام الماضية، إلى الحد الذي كان قد وصل عددهم قبل سقوط المدينة تحت سلطة داعش في يوم ١٠ / ٦ بعدة أشهر أكثر من ٥٠ قتيلا، وهذه النسبة من القتلى هي الأعلى مقارنة مع جميع الضحايا الذين وقعوا دفاعا عن الحقيقة من الصحفيين في مدن العراق الأخرى بما فيها العاصمة بغداد.
إلاّ أن هذا الواقع ــ بكل قسوته وخطورته ــ لا يكفي لأنْ يكون عذرا مقبولا للتخلي والتنصل عن مسؤولية التوثيق (بالصورة والصوت) لجرائم داعش. والمسؤولية هنا لا تقتصر على الصحفيين وحدهم، بل تتعداهم لتشمل جميع ابناء الموصل دون استثناء.
ولا أدري ما الذي يدفع سكان المدينة إلى أن يكونوا على هذا الموقف اللامسؤول إزاء مايقع عليهم من ظلم وقهر بات يتصاعد يوما بعد آخر؟! هل ينتظرون الخلاص يأتيهم من السماء؟ هل ما زالوا يراهنون على التدخل الخارجي؟
ثمن الحرية والتحرير اعتماداً على القدرات الذاتية ــ مهما كلف من تضحيات كبيرة ــ هو الأقل كلفة فيما لو قورن بخيار الحل القادم عبر تدخل قوة أجنبية.
بنفس الوقت أجد الموصليين حتى الآن ما زالت تتملكهم هواجس خوف وعدم اطمئنان تجاه قوات البيشمركة الكردية عندما يصلهم خبر يفيد بتقدمها خطوة باتجاه تحرير الموصل من سلطة داعش. فهل لهذا الخوف ما يبرره بعد الجرائم التي باتت تطالهم كل يوم من قبل داعش؟
ربما لهذه الهواجس أسبابها، ولم تأت من فراغ، لكنها مبالغ بها، ولربما تكمن الأسباب في قضية المناطق المتنازع عليها بين محافظة نينوى وإقليم كردستان، فمن المعلوم أن مايقارب 16 وحدة إدارية كانت تابعة لمحافظة نينوى قبل 9 نيسان 2003 أصبحت بعد هذا التاريخ تحت سلطة وإدارة الإقليم قبل أن يحسم الخلاف عليها من قبل الجهات القانونية والقضائية، فكانت هذه القضية خير منفذٍ ليدخل من خلاله عدد من الأطراف السياسية العراقية لتأجيج الصراع وتغذيته بين محافظة نينوى وحكومة الإقليم، ومن الطبيعي جدا أن يلقي هذا الصراع بظلاله القاتمة على البنية الاجتماعية، خاصة لدى الفئات والقوى التي تتبنى الأفكار القومية المتعصبة.
على الموصليين إزاء ما حصل من متغيرات مؤلمة بعد سقوط المدينة تحت سلطة داعش، أن يتقدموا خطوة للأمام نحو خيار الحوار والتفاهم باتجاه تصحيح العلاقة مع اخوتهم الكورد وتمتينها بالشكل الذي يتناسب مع أبعادها التاريخية والاجتماعية، فلا أحد منهما يستطيع أن ينأى بنفسه عن الآخر ويستبدله بجار جديد، وعلى الإخوة الكرد أيضا أن يتقدموا بمثل هذه الخطوة.
التواصل والتعايش المشترك مع الإخوة الكورد أمر طبيعي أثبتته عشرات السنين من التجاور والتعايش المشترك وخاصة مع الموصليين، فالعلاقة بينهما لها جذور تاريخية ومجتمعية عميقة جدا، فالكرد يشكلون بثقلهم السكاني في المجتمع الموصلي أكبر نسبة بعد العرب. وهنالك عوائل وقبائل كردية تعد عناوين بارزة للمجتمع الموصلي. لذا ليس من السهل القفز فوق هذه الحقائق المشرقة والانسياق العاطفي وراء محاولات مشبوهة تدفع بها بعض القوى السياسية سعيا منها لزرع الفتنة بين الاثنين.
الإقدام نحو مزيد من التفاهم مع سلطة إقليم كردستان سيدفع المجتمع الموصلي إلى شاطئ الاطمئنان والاستقرار، وينأى به بعيدا عن مخططات القوى السياسية التي تعتاش على خلق الأزمات، وفيما لو تحققت تلك الخطوة عندها يصبح بالإمكان التوصل إلى حلول ممكنة وواقعية ازاء قضية المناطق المتنازع عليها.
حتى هذه اللحظة يبدو لي أن محنة المدينة لم تتمخض عنها أي صورة واضحة تبعث فينا احساسا قويا بالأمل، فلم نتلمس من خلال هشاشة الوضع المجتمعي ما يطمئننا على أن هناك ولادة جديدة لقوى مجتمعية/سياسية تمتلك ما يكفي من النضج بما يكفي لترتقي بموقفها إلى مستوى هذا الحدث الجلل.
بل على العكس من ذلك، نجد قصورا خطيرا في الرؤية مبعثه تلك الأخطاء التي كانت قد صاحبت وجود فرق الجيش العراقي الأربع في شوارع وطرقات المدينة قبل سقوطها.
وهنا علينا أن لا نتغافل عن بعض الحقائق المهمة التي استجدت بعد هروب الجيش ودخول داعش، وخاصة فيما يتعلق بالحواجز والسيطرات ونقاط التفتيش والتي دفعت أعداداً كبيرة من الموصليين في الأيام الأولى لسقوط المدينة إلى أن يرتكبوا خطأ كبيرا عندما خرجوا إلى الشوارع للاحتفال بتحرر المدينة (كما سماها بعضهم) من سلطة الجيش، بعد أن كان قد تسبب لهم بالكثير من الأذى طيلة أكثر من عشرة أعوام، إلاّ أن ما أعقب تلك الأحداث من تداعيات خطيرة كانت من السوء والقسوة والوحشية ما لا تصح مقارنتها مع ما كان يصدر من تجاوزات طائفية لبعض أفراد الجيش العراقي. وحتى لو تمت مقارنتها، فإن النتيجة ستصبح لصالح الجيش العراقي (مع تحفظنا ورفضنا لكل ما صدر عن بعض أفراده من إساءات). وما لم يستيقظ أبناء المدينة على جرحهم ليدركوا عمقه وخطورة تجاهله، فإن داعش لن تخرج من الموصل حتى بعد أن تتحرك ضدها الولايات المتحدة ومعها الدول الأربعوين التي تحالفت معها.
عندما تكون محافظة نينوى محتلة من قبل قوة غاشمة بربرية ترتدي ثوب الدين وتحكم باسمه؛ فإن هذا الوضع يفرض على الموصليين مسؤوليات وواجبات وطنية ينبغي أن يتحملوها دونما تردد حتى مع افتراض أن أميركا ومن معها بما يملكون من ترسانة عسكرية متقدمة سيتكفلون بمطاردة داعش وسحقهم.
والآن.. بعد أن اتضحت صورة الحكم الاسلاموي على بشاعتها ودمويتها حتى لأولئك الذين كانوا يحملون في داخلهم تعاطفا وميلا إلى دعوات الإسلامويين بإقامة الخلافة الاسلامية، بات أمراً ملزماً على مجتمع نينوى أن يخرج من حالة الصدمة التي آسَرَته طيلة الفترة الماضية وأفقدته الرؤية والقدرة على الفرز والعمل، وأنْ يتحرك بوعي ومسؤولية بما يُبعد عنه تهمة الخيانة بالتواطىء مع داعش.