باتت المطاعم ومراكز التسوق (المولات)، السمة الأبرز للعاصمة بغداد، وسط تساؤلات عن هدف إنشاء هذا الكم الهائل منها بمختلف المناطق، ما عزاه خبراء ونواب، إلى عمليات واسعة “لغسيل الأموال” تقف وراءها شخصيات عراقية معاقبة دوليا، وباتت عاجزة عن إخراج أموالها للخارج، فزجتها في هذا المجال، لاسيما بعد أن حجزت أموالها في مصارف لبنان بسبب أزمته الاقتصادية، لكنهم من جانب آخر شددوا على ضرورة تفعيل محاسبة أصحاب هذه الأعمال ومعرفة مصدر الأموال للتوصل للحقائق.
ويقول المتخصص في الشأن الاقتصادي مصطفى حنتوش أكرم، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إن “العراق أحد أكبر البلدان في غسيل الأموال، بسبب حجم الفساد، والإنفاق الحكومي، والذي يتضمن فسادا بثلاثة مستويات، الأول الرواتب والذي بلغت نسبة الفساد فيه 20 بالمئة من خلال الموظفين الفضائيين”.
ويضيف أكرم أن “المستوى الثاني، هو ما يتعلق بالاستثمار، فالمشاريع الاستثمارية في العراق يشوبها فساد مالي كبير، ولهذا هناك الآلاف من المشاريع المتلكئة وبعضها وهمية وغيرها، والمستوى الثالث هو القطاع الخاص”، لافتا إلى أن “هذا القطاع لا يمكن الدخول فيه إلا بعد دفع ملايين الدولارات كرشاوى”.
ويتابع أن “أموال الفساد سابقاً كانت تحول الى الخارج، معظمها في مصارف لبنانية، قبل الحجز عليها، والعقوبات الامريكية على الكثير من المصارف في العالم بسبب غسيل الأموال، جعل هناك صعوبة بنقل أموال السرقات والفساد لخارج العراق، وهذا دفع بعض أصحاب الأموال المشبوهة الى شراء العقارات وفتح المطاعم، وهذا يعد غسيلا للأموال بشكل داخلي”.
وعن كيفية مكافحة عمليات غسيل الأموال الداخلية التي تتم عبر شراء العقارات وفتح المطاعم وغيرها، يفيد بأن هناك “قوانين إذا طبقت يمكن الحد من هذه الجرائم، وهناك جهات مختصة يمكن لها كشف كل ما يصرف ومصدره بشأن شراء العقارات الثمينة أو من خلال معرفة مصدر الأموال التي تفتح بها المطاعم التي تكلف ملايين الدولارات”.
وانتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة إنشاء مراكز تجارية “مولات” بشكل كبير في العاصمة بغداد، والمحافظات أيضا، إلى جانب إنشاء مطاعم فخمة جدا، وتحولت أغلب المناطق التجارية التي كانت تضم محال اعتيادية الى مناطق تعج بـ”المولات” والمطاعم المتراصفة جنبا إلى جنب، وكل منها يتكون من طوابق متعددة.
وأصبحت هذه المطاعم الفخمة، مقصد صناع المحتوى في العراق، حيث لجأوا إلى زيارتها والتصوير فيها وعرض أصناف الطعام التي تقدمها، والأهم استعراض الفخامة والديكور والمساحة الكبيرة لكل مطعم، وهذا إلى جانب الأسعار التنافسية.
من جانبها، تشدد الخبيرة في الشأن المالي والاقتصادي سلام سميسم، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، على وجوب أن “تكون هناك رقابة على قضية شراء العقارات الثمينة وكذلك الأعمال التجارية التي تكلف أموالا طائلة جداً، وهذا الأمر معمول به في كافة الدول من خلال المباحث الاقتصادية، لكن في العراق أصبح قطاع العقارات الملاذ الآمن لكثير من الأموال التي تدور حولها شبهات”.
وتكشف سميسم أن “هناك الكثير من أموال السرقات لا يمكن إخراجها خارج العراق، ولهذا يتم استثمار تلك الأموال في شراء العقارات وفتح بعض المشاريع التي تكلف أموالا طائلة جداً، ولهذا نرى زيادة مهولة في إنشاء المجمعات السكنية والمولات والمطاعم وغيرها”.
وتضيف أن “استثمار أموال الفساد في المشاريع الاستهلاكية سيجعل المطاعم والمولات اكثر من المنازل السكنية يوما ما، خصوصاً في العاصمة بغداد، كون هذا القطاع أصبح مخبأ للأموال المشبوهة والتي لا يمكن لصاحبها تهريبها خارج العراق، ولهذا يذهب لهذا المجال لحماية أمواله وإخفائها عن الجهات الرقابية”.
وكانت “العالم الجديد”، قد كشفت في 2020، عن عائدية مركز تجاري كبير في منطقة الكاظمية لأحد السياسيين الكبار، وذلك بالتزامن مع قرب افتتاحه آنذاك.
يذكر أن لجنة الاستثمار النيابية السابقة، أكدت هيمنة شخصيات وأحزاب وميليشيات على مشهد الاستثمار في البلاد، وأن من شأنه منع حصول الشركات الاستثمارية الرصينة على فرصة للدخول في مجال الاستثمار في البلاد.
بالمقابل، يفيد عضو لجنة النزاهة البرلمانية هادي السلامي، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن لجنته “ستعمل مع الجهات التنفيذية المختصة المختلفة، على فتح ملف غسيل الأموال عبر شراء العقارات او افتتاح المشاريع التجارية للتغطية على أموال الفساد والصفقات، خصوصاً ان قضية سرقة القرن كشفت ذلك بشكل واضح للجميع من خلال شراء المتورطين بهذه القضية عقارات بملايين الدولارات”.
ويضيف السلامي أن “عملية غسيل الأموال عبر شراء العقارات او افتتاح المشاريع التجارية، كثرت في الآونة الأخيرة بسبب عدم وجود رقابة حقيقية على عمليات الشراء ومعرفة مصدر الأموال، ولهذا يجب تفعيل القوانين الرقابية، لمعرفة مصدر الأموال لشراء عقارات بملايين الدولارات”.
وإلى جانب “المولات”، بدأت تنتشر في بغداد ظاهرة الاستثمار في المجمعات السكنية، دون مراعاة لحل أزمة السكن في البلاد التي تفتقر الى 3 ملايين وحدة سكنية، بحسب إحصائية لوزارة التخطيط، حيث تباع الوحدات السكينة بأسعار باهظة، تتراوح في المتوسط بين 100 ألف إلى 400 ألف دولار.
من جانبه، يشير المحلل السياسي علي البيدر، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إلى أن “قضية غسيل الأموال عبر شراء العقارات او افتتاح بعض المشاريع التجارية اصبح امرا شائعا جداً في العراق، فهناك الكثير ممن يعملون على إخفاء أموال السرقات والصفات الفساد، عبر مشاريع تغطي على نوعية وكمية الأموال المشبوهة، خصوصاً هذا الامر أدى الى رفع أسعار العقارات بشكل خيالي حتى وصلت أسعار بعض العقارات الى ملايين الدولارات”.
ويبين البيدر، أن “قضية غسيل الأموال عبر شراء العقارات او افتتاح بعض المشاريع التجارية ازدادت خلال الفترة القليلة الماضية، وهذا بسبب حالة الفوضى، وهناك مشاريع تجارية وعقارات تشترى ليست بأسماء أصحاب الأموال المشبوهة بل بأسماء أقارب لهم من الدرجة الثانية او حتى الثالثة أو بعض العاملين لديهم من أجل منع أي محاسبة لهم، لكن متابعة أصل تلك الأموال من خلال الجهات المختصة الحكومية، يمكن أن يقلل عمليات غسيل الأموال بهذه الطريقة التي أصبحت شائعة جداً”.
ويوضح أن “استمرار غسيل أموال الفساد عبر شراء العقارات أو افتتاح بعض المشاريع التجارية، يعني استمرار ارتفاع أسعار العقارات بشكل خيالي في الأيام القادمة، ولهذا يجب تشديد الرقابة حول شراء بعض العقارات الثمينة وافتتاح المشاريع التجارية، التي تكلف ملايين الدولارات”.
وتنتشر تلك المجمعات داخل العاصمة، وبالتحديد في مناطق: العلاوي (أمام متنزه الزوراء)، والبياع، وشارع مطار المثنى، والسيدية، والكاظمية، وحي العدل، وسريع محمد القاسم، بالإضافة الى بسماية، ووفقا لتقرير سابق لـ”العالم الجديد”، فأن هذه المجمعات تعود لسياسيين أيضا، لم يتمكنوا من إخراج أموالهم لدول أخرى.