صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

النحّالون.. رحالة يبحثون عن الخضرة والعسل المستورد يلاحقهم

رحّالة من نوع جديد، وبدلاً من حملهم الخيم والملابس، يحملون خلايا النحل، يجولون بها العراق بحثا عن أماكن خضراء لم يمسها الجفاف حتى الآن، ليقيموا فيها وقتا قصيرا بغية تغذية النحل ومن ثم العودة لمدنهم، لإكمال مهمة إنتاج العسل عبر تغذيته على أشجار من نوع آخر تقاوم العطش.  هكذا يصارع النحالون العراقيون التحديات، في مهنة تفاوتت فيها نسب الإنتاج حسب المناطق، ففيما أكدت بعض الأرقام ارتفاع نسبة الإنتاج بشكل لافت، أشار نحالون من بعض المحافظات إلى تراجعها بسبب الجفاف، وذلك…

رحّالة من نوع جديد، وبدلاً من حملهم الخيام والملابس، فإنهم يحملون خلايا النحل، ليجوبوا بها مناطق البلاد، بحثا عن أماكن خضراء لم يمسسها الجفاف، ويقيموا فيها وقتا قصيرا بغية تغذية النحل ومن ثم العودة إلى مدنهم، لإكمال مهمة إنتاج العسل عبر تغذيته على أشجار من نوع آخر تقاوم العطش. 

هكذا يصارع النحالون العراقيون التحديات، في مهنة تفاوتت فيها نسب الإنتاج حسب المناطق، ففيما أكدت بعض الأرقام ارتفاع نسبة الإنتاج بشكل لافت، أشار نحّالون من بعض المحافظات إلى تراجعها بسبب الجفاف، وذلك بحسب ما تقصته “العالم الجديد” مشاكل هذه المهنة بمختلف مدن البلاد من شماله إلى جنوبه.

بدايةً من العاصمة بغداد، يقول رئيس جمعية النحالين العراقيين قاسم مظفر، في حديث لـ”العالم الجديد”، إن “هذه السنة هي الأفضل لمربّي النحل، بسبب الأمطار الغزيرة التي سقطت في عموم العراق، حيث أدت إلى نمو النباتات والأزهار، الأمر الذي يزيد إنتاج العسل”.

ويضيف مظفر، أن “كمية النحل تضاعفت بنسبة 50 في المئة، بسبب طول مدة الربيع في العام الحالي، والسنة التي تشهد وفرة بالكمأ تشهد أيضا إنتاج الكثير من العسل”، مشيراً إلى أن “إنتاج العسل في العراق يبلغ بحدود 1700 طن سنويا”، متوقعا زيادة الإنتاج هذا العام إلى “2000 طن”.

ويؤكد، أن “العسل العراقي خجول في الأسواق، بسبب كثرة العسل المهرب، حيث يؤثر على العسل المحلي، والدولة من جانبها لم توفر الدعم للنحالين لكي ينمو عملهم”، مؤكدا أن “الدولة لم تتخذ أي إجراءات ضد مهربي العسل لداخل البلد، وقد قدمنا شكاوى عديدة لكن دون جدوى”. 

ويوضح، أن “النحال ينقل النحل إلى مناطق يكون فيها المرعى أفضل، وخاصة بالمناطق الشمالية في ربيعة (بمحافظة نينوى) وبنجوين (في السليمانية)، وأغلب النحالين هناك ينتظرون الشهر الثامن (آب أغسطس)، لاسترجاع نحلهم إلى المناطق التي تحتوي شجرة السدر (النبق)، وهي عملية تزيد من إنتاج العسل”. 

وعن الجفاف، يوضح مظفر، أنه “يؤثر بصورة عامة، لكن النحالين لا يبقون مكتوفي الأيدي، ويتنقلون بين مناطق البلد بحثاً عن مرعى جيد للنحل، وبعض النباتات تعيش على الجفاف وتزدهر فيها، وخصوصاً أشجار السدر، التي يتغذى عليها النحل”.   

ويعاني العراق من أزمة جفاف قاسية، ألقت بظلالها على كافة أنواع المهن والحيوانات، وسبق وأن كشفت “العالم الجديد”، عن تراجع أعداد الجاموس من ملايين إلى آلاف بسبب الجفاف، فضلا عن تأثر الأسماك والكائنات الحية الأخرى في الأهوار والأنهار بسبب الجفاف، حيث نفقت أعداد كبيرة منها، وهذا يضاف إلى تغيير الطيور المهاجرة لمسارها وعدم هبوطها في العراق.

وبما يخص العسل، فإن العراق يعد من الدول مفتوحة الحدود مع عدم وجود رقابة وضرائب على المواد المستوردة، وغالبا ما يتصدر قوائم المستوردين من دول إيران وتركيا والصين، والعسل هو أحد هذه المواد التي يتم استيرادها بشكل مستمر وبأسعار بخسة، مقارنة بالعسل المحلي، فضلا عن دخول كميات كبيرة عن طريق التهريب، تجنبا لأي إشكال في المنافذ الحدودية.

كما جرى الكشف مؤخرا، عن استيراد أنواع هجينة من النحل نشرها في الحقول ما تسبب بأزمة مضاعفة للنحالين العراقيين، لكون النحل المستورد حمل معه أمراضا تسببت بالقضاء على أعداد هائلة من النحل العراقي.

ذوبان العسل

وبالانتقال إلى محافظة بابل، فإن النحال صفاء علي، يبين، أن “الإنتاج يكون حسب المزارع التي توجد فيها كمية من الرحيق والزهور، وكذلك الجت الذي يمثل غذاءً جيداً للنحل”.

ويوضح علي لـ”العالم الجديد”، أن “درجات الحرارة العالية تؤثر على العسل، والخلية تقوم بتبريد العسل لكي لا يذوب، وهنا النحل يبدأ باستهلاك طاقته لحماية العسل الموجود، وكل هذا يحصل بسبب تعرضه لأشعة الشمس المباشرة”، مبينا أن “الإنتاج في السنة الحالية شهد تراجعاً، بسبب الجفاف، والفرات الأوسط من أكثر المتضررين بشح المياه”.

ويوضح، أن “عدم إنبات الورد ينهي وجود العسل، خاصة مع عدم وجود أي دعم حكومي للنحالين بصورة عامة، ليتأثر إنتاج العسل بشكل قوي”.

وأعلن مطلع العام الحالي، عن انخفاض إنتاج العسل في محافظة ديالى خلال 2022 من 150 طنا إلى أقل من 100 طن، بسبب الجفاف وشح المياه وانحسار المناطق الطبيعية، لاسيما مع غياب زراعة محاصيل عباد الشمس والذرة والقطن، التي تعد مصدراً لعسل (الفيض) أي الإنتاج الغزير.

يذكر أن ديالى، من المحافظات التي انعدمت فيها الزراعة، ولم تشمل بأي خطة زراعية صيفية أو شتوية، بسبب شح المياه وقطع الأنهر الواصلة لها من إيران، ما حرمها من زراعة أبرز المحاصيل وهي عباد الشمس والذرة الصفراء.

وتضم ديالى أكثر من 1500 نحال موزعين في عموم الوحدات الإدارية، بحسب الجمعية النموذجية للنحالين العراقيين.

كيف يتحول المطر إلى عائق؟

وبالتوجه إلى السليمانية، فإن بلال هيوا، وهو صاحب محل عسل، يبين أن “إنتاج العسل السنوي يختلف حسب المناخ، فمثلاً إذا كان الطقس في جبال كردستان فيه تساقط للثلوج أو مطر مستمر، سيؤخر فصل الربيع، وهنا يدخل النحال في ما يسمى بالتحنيط، وهو ما يؤخر جمع رحيق الزهور، الأمر الذي يجعل الإنتاج قليلا، وهو متذبذب بين سنة وأخرى”.

ويوضح هيوا، لـ”العالم الجديد”، أن “فرز العسل يبدأ من الشهر الثامن، وحسب المعطيات، فإن إنتاجه يكون قليلاً قياساً بالسنة الماضية بسبب استمرار الأمطار، لأن تساقط الأمطار بكثرة، يقيَّد حركة النحل، ويمنعه من ممارسة عمله”.

ويبين أن “العسل المستورد موجود وبكثرة في أسواق السليمانية، وسعر الكيلو غرام الواحد، يتراوح بين 5 آلاف وصولاً إلى 30 ألف دينار، لكن عسل جبال السليمانية هو الأفضل، لأنه متعدد الزهور، وفوائده عالية جداً من ناحية المكونات الذي يعتمد عليه النحل”.

ويتابع، أن “الحكومة قررت دعم النحالين، لأن العسل ثروة طبيعية مهمة، لكن قرارات الدعم تبقى حبراً على الورق لغاية اللحظة”.

وكانت وزارة الزراعة، أقامت العديد من المختبرات العلمية والبحثية لمواجهة الأمراض المستحدثة التي تصيب النحل وتكبد النحالين خسائر فادحة، كخطوة لمواجهة خطر انقراض النحل في العراق.

وضمن خطة وزارة الزراعة، كان قرارها الصادر في 2020، والقاضي بتعديل أجور منح الإجازات الخاصة بتأسيس مناحل العسل بهدف دعم النحالين وتشجيعهم على توسيع عملهم، حيث خفضت المبالغ إلى 25 ألف دينار بدلا من 100 ألف دينار، كما جرى تخفيض رسوم تجديد الإجازة إلى 5 آلاف دينار بدلا من 15 ألف دينار.

العسل المستورد

في البصرة، يوضح الأستاذ الجامعي والخبير في المنتوجات الزراعية، محمود شاكر، أن “التغيرات المناخية أثرت كثيراً على العسل والنحل، فهو يتواجد في مناطق شمال البصرة، لكنه ينعدم بالوقت الحالي في جنوبها وشرقها بسبب اللسان الملحي، أما غربها، فهي منطقة صحراوية ولا تدعم وجود النحل”.

ويلفت شاكر، وهو مربي نحل أيضاً، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إلى أن “الغطاء النباتي واجه خطراً شديداً في جنوب وشرق البصرة، حتى انعدم، وهذا يعني أن النحل يبقى من دون تكاثر وتغذية”، مبيناً أن “الحكومة لا توفر الدعم للعسل المحلي ولا لعملية التلقيح، والمشكلة الأكبر تكمن في العسل المستورد الذي يدخل السوق من دون رقابة، رغم التشديد على منع دخوله”.

ويكمل شاكر بنبرة حادة: “العسل المستورد دمرنا، ودخلت بضائع منه لا تحمل علامات ولا موافقات، ومن دون ضريبة، عبر دول الجوار وخاصة إيران، ليكون سعر كيلو الغرام الواحد منه 12 ألف دينار، وهو عبارة عن سكر وماء، بينما العسل العراقي الذي يحوي مواصفات عالية وجيدة ونقية، فسعر الكيلو غرام الواحد منه يصل إلى 60 ألف دينار”.

يشار إلى أن السوق العراقية تزخر بأنواع عديدة من العسل المعلب المستورد، ومنها التركي والسعودي والإيراني، وتتفاوت جودة المنتج حسب سعره، لكن بالمجمل فأنه يعد “صناعيا”، ويتوجه المواطنين نحوه لرخص ثمنه.

كما انتشرت مؤخرا في السوق، علب كتب عليها “شراب العسل”، في خطوة للتهرب من الملاحقة القانونية، فلم يكتب عليها عسل، وذلك لكون المادة فيها مصنعة من الماء والسكر وإضافات أخرى، وليست عسلا حقيقيا.

من جانبه، يؤكد الخبير البيئي الجيولوجي، حمزة رمضان، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “الموارد المائية هي الأساس لتنمية الغذاء الأخضر، الذي يعتمد عليه النحل بشكل أساسي، والتغير المناخي، يؤثر بشكل مباشر على الزراعة ويجعلها متذبذبة، بسبب عدم وجود مصدر مائي مستمر، الذي لا يضمن وجود رقع خضراء”.

ويؤكد رمضان، أن “البشر لهم أيضاً دور في التأثير على الزراعة، حين جرى تضييق المساحات الخضراء عبر تجريفها، الأمر الذي يؤثر على غذاء النحل، ما يدفع بعض النحالين إلى غش العسل”، مؤكدا أن “العراق ليس مقبلاً على أي تحسن بيئي أبداً، بسبب عدم وجود ضمان للمصادر المائية الجوفية والسطحية التي تأتي من تركيا وإيران”.

إقرأ أيضا