اليهوديّ راوياً في الرواية العربية الحديثة

حول رواية اليهودي الحالي لعليّ المقري

إن عبور التصورات الجمعية المستقرة، والتصنيفات والتنميطات العامة للآخر في العقل الجمعي لأمة من الأمم، يُعدّ محظوراً من المحظورات التي قلّ أن تجرأت رواية على الإقدام عليها.
وحتى إقامة ما صار يسمى سرديات بديلة أو صغرى للسرديات السائدة أو الكبرى لم يكن من اختصاص الرواية العربية التي ظلت في الغالب تتحرك في اتجاه موازٍ وبحماية السرديات الكبرى في القضايا التي تخص المجتمع والقيم والثقافة. وإننا نشعر في أحيان ما، بأن ما يدّعي مخالفة المتوافَق عليه خاصة في قضايا النسوية والأقليات الدينية أو الثقافية في مجتمعاتنا لا يخرج عن أن يكون تأكيداً على ذلك السائد، كما في الرواية النسوية التي تشعرنا في النهاية أن الاختلال في السرديات التقليدية لن يعود إلا بمزيد من القلق والاضطراب على المستوى الشخصي، واحتمالات الضياع على المستوى الجماعيّ، خاصة في ضوء عدم قدرة الرواية على تقديم البديل للعالم الذي تعمل على نقده واضعافه.
وباستثناء تجارب روائية قليلة منها تجربة الروائي اليمانيّ عليّ المقري في روايته اليهودي الحالي، لا نجد أيّة زحزحة حقيقية للتصورات المتصلة بالذات وبالآخر، المختلف دينياً، من خلال السرد الذي يستعيد حقبة تاريخية من وجهة نظر المختلف والمضطهد دينياً. فسالم اليهوديّ الحالي أي المليح (والراوي) في الرواية يدخل الإسلام بعد قصة حبّ لمسلمة من قريته في اليمن الذي كان في القرن السابع عشر الميلادي يحتضن جالية يهودية كبيرة. وهو بعد أن يحصل على محبوبته زوجة له من غير أن تطالبه بتغيير دينه، بعد أن تفرّ معه من قريتهما النائية (ريدة) إلى صنعاء. وبعد أن تموت في أثناء ولادة سعيد ابنهما يرى أنّه من باب الوفاء لها ذكر انها مسلمة وانها لم تغير دينها أو تطالبه بذلك، ما جعل أقاربه الذين سكن عندهم بعد وصوله إلى صنعاء يطردونه وجعل أحبار اليهود يشكون بأنه مسلم متخفٍ مما اضطره إلى الهرب ومن ثَمّ إلى اعتناق الإسلام ديناً.
ولأن (سالم) كان قد تعلم العربية والخط على يد فاطمة منذ صباهما، فقد عمل لدى الإمام حاكم اليمن كاتباً ومدوناً لوقائعه مع الكفار والخارجين على حكمه، ومنهم اليهود مما ساعده على تدوين تاريخين الأول رسميّ والثاني شخصيّ يصف الاضطهاد الذي يتعرض له اليهود من المجتمع الإسلامي الذي يعدهم كفاراً وأنجاساً، فلا يُذكر اسم يهوديّ إلا ويُذكر معه قول \”أعزك الله\” تماماً مثلما يُقال مع كلمة كلب أو أيّ حيوان آخر. ولا يُسمح لليهوديّ بركوب الحمار والمرور أمام مسلم فعليه عندها أن ينزل عنه، ولا يُسمح له بالشهادة ولا يُقبل منه غير إبداء علامات الذلّ والخضوع والطاعة، وإذا ما ظهر منه غير ذلك أبيح ماله وما يملك، ودُفع إلى الفرار كما حصل في نهاية الرواية حيث اجتمع اليهود على رجل ادعى أنه المسيح المخلص فقام الإمام بطردهم وبإباحتهم للمسلمين.
تقوم الرواية على الوقائع والحوادث التاريخية المستبعدة التي لا تتصل بشخصية او حقبة اسلامية، ولكنها تتصل بالفرد المغمور غير المذكور وبتصور جمعيّ تحمله فئة من المجتمع ضد فئة أخرى من المجتمع نفسه. تصور يقوم على أساس دينيّ معادٍ للمختلِف ورافض له ومحتقِر. تصور يبدأ بالعنف اللفظيّ تجاهه ويمرّ بالسلوكيّ منتهياً بالجسديّ فهو لا يتورع عن قتله وانتهاكه. وهو، وتلك هي المشكلة، تصور مستقر وراسخ ولم تجرِ مناقشته أو مراجعته ثقافياً أو سردياً. وهنا تكمن جرأة هذه الرواية، فثمة إعادة تشكيل للذاكرة يترتب عليها تقديم صورة مغايرة للمختلِف دينياً. فهو مضطهَد ومعنَف ومدفوع دفعاً إلى الحلم بالانتقام. وهو غير قادر على الاندماج والانتماء للمضطهِد له لأنّ الأخير، بالنتيجة، يظل مرتاباً به. على عكس من يحبّه أو يعلمه أو يدعوه إلى تبادل الكتب معه كما كانت تفعل فاطمة التي تقرأ كتب سالم اليهودية وتعطيه كتبها العربية كطوق الحمامة والقرآن وغيرها ليقرأها دون أن ترغب في أن تحوله إلى دينها، بل على العكس هي تحبه بهيئته وبزنارتيه وهو لذاك يحبّها ويقدِّر إسلامها.
واضح أن الرواية تدعو إلى إعادة التفكير في قسوتنا تجاه المختلِف دينياً لأنها في وقت من الأوقات قسوة تجاه الذات وقضاء عليها. فما يكون من أهل فاطمة الغاضبين على زواجها من يهوديّ إلا اخراج رفاتها من مقبرة المسلمين والقائها بعيداً. كما لايكون من قوم سالم إلا انهم نبشوا جثته وألقوها بعيداً عن قبورهم لأنه في نظرهم كافر. وليس من شيء يترتب على هذا لابن سالم وفاطمة، إلا الفرار بعيداً عن هذه القسوة وإلا التيه.
قد يكون تغيير التصورات الجمعية للمختلِف دينياً أو مذهبياً صعباً للغاية. ولكن ومن خلال السرد ستكون أمامنا فرصة لإعادة التفكير في اللامفكَر فيه، خاصة في ضوء ما نعيشه اليوم من مواجهة تكاد تقضي على كلّ آمالنا في الحياة والتطور والسلام.

إقرأ أيضا