مشهد 1
الفتاة الجميلة نجاة يقودها جنود محتلون، معهم مترجمهم، تلحق بهم الأم التي تعرف أن الفضيحة قد لحقت بها ولكنها تريد أن تقلل من شدتها، لذا تصر على أن تركب مع ابنتها في السيارة العسكرية التي ستأخذهم إلى معسكر الأمريكان في أطراف المدينة.
مشهد 2
الضابط الأمريكي الغاضب، يعامل الفتاة بقسوة، ويشتمها مكررا ما ترجمته: \”عاهرة\”، ويطلب منها أن تتصفح وجوه المجندين الزنوج الأمريكيين كلهم واحدا فواحدا للوصول إلى المجرم الذي سيقودهم بالتأكيد إلى شريكه في الجريمة.
مشهد 3
نجاة تتصفح وجوه الزنوج للوصول إلى القاتل من بينهم فهي الشاهدة الوحيدة على الجريمة. ولكن الوجوه متشابهة جدا، وهي لا تستطيع التمييز بينها، وليس أمامها إلا حل واحد للتخلص من مشهد أخذها أمام الناس بين فترة وأخرى بسيارة الجيب الأمريكية، وللتخلص من إهانات الضابط الأمريكي وملاحقات الجنود الشرهة لجسدها بالكلمات والنظر.. ليس أمامها إلا أن تشير إلى أي واحد منهم، وتقول إنه هو القاتل لتخلص نفسها.
ولكن كيف تفعل، فالرجل سيُعدم ظلما إذا أشارت إليه!
مشهد 4
ولكن ما أصل مأساة نجاة؟ هي فتاة صغيرة تزوجت رجلا أكبر منها بكثير يحبها ويدللها، ولكنها مثل الطائر المسجون تنظر إلى ما هو أبعد من قضبان قفصها وتريد أن تجرب الحياة، وذلك يجعلها توافق أول مُحرِر لها، حتى إن كانت تدري أنه ليس إلا طامعا بها، وليس إلا بائعا لجسدها. مثلما تعرف هي تماما عن إبراهيم ابن الخبازة. فقد سمعت عنه أنه يأخذ الفتيات إلى الأمريكان في أطراف البساتين القريبة من معسكراتهم في مقابل أموال كثيرة قد يعطي منها القليل لهن أو قد لا يعطيهن أي شيء.
مشهد 5
تستجيب نجاة لإلحاح ابراهيم عليها بالخروج معه ليلا بعد نوم زوجها فيأخذها إلى مكان منعزل ويتركها لاغتصاب الجنود السود الذين لا تستطيع مقاومة لهم. وتشاء الصدف أن يحظى أحد رجال الشرطة العسكرية الأمريكية بالمغتصبين، ليدور بين الشرطي وبين الزنجيين الوحيدين اللذين لم يفرا، نقاش حاد وعراك يفلح فيه المغتصبان في قتل الشرطي العسكري. وستصل دورية الشرطة العسكرية إلى نجاة التي كانت غير قادرة على الفرار لما أصابها من أذى الاغتصاب لتكون الشاهدة الوحيدة على الزنجي.
مشهد 6
تخسر نجاة كل شيء، فالزوج الذي بلغته الشرطة بواقعة نجاة والمكان والوضع اللذين وجدت فيهما، يطلقها. وأهل الحي الذي يسكنون فيه ينذرونهم بالرحيل بعد شهر من منزلهم. والمترجم الذي ظنت في تعاطفه معها حبا يرفض الفرار بها إلى مكان بعيد لتبدأ حياة جديدة.
وهناك وازع في داخلها يمنعها من التضحية بإنسان بريء من أجل نجاتها.
وكل ذلك يدعوها إلى التفكير في ما يظنه القارئ انتحارا. وأقول يظنه لأن رواية \”الشاهدة والزنجي\” تنتهي نهاية مفتوحة فنجاة تحكي لأمها حكاية عن العصا التي كانت تستخدمها الأم في ضربها إذا اكتشفت أنها تسبح في النهر هي وصديقتها منصورة. وتخبرها أنها أخذتها ذات يوم من مكانها وألقتها في النهر، وظلت تراقب طفوها على وجه النهر وتحركها بعيدا مختفية عن الأنظار. هذا فيما تترك نجاة لأمها أن تقوم بما تراه مريحا من أجلها كوضع فراش لها في الخارج حيث الجو أكثر برودة من داخل الغرفة قائلة في نفسها: لأدعها تفعل شيئا أخيرا من أجلي.
\”الشاهدة والزنجي\” لمهدي عيسى الصقر تدور أحداثها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لا الآن كما يظن القارئ مع تقاربها من واقعنا المعاصر. وهي رواية واقعية مكتوبة بأسلوب الراوي العليم الذي يرى كل شيء، ويطلع على ما يدور في النفوس، وفي الواقع ويختار من كل ذلك ما يراه مناسبا لتقديم صورة كاملة أقرب إلى السينمائية، وصورة مطابقة لما يتخيل الكاتب، ومعبرة عما يريد أن يقوله للقارئ ويتركه للتاريخ.
والكاتب يدين من خلال تلك الطريقة المجتمع الذي يستغل عواطف الإنسان وضعفه الطبيعي فيجرمه، ويهينه، كما حدث لنجاة. وهو يدين القوة أيا كانت سواء قوة المجتمع أم الاحتلال لأنها تجعل الفكرة أو القيمة أو اللون فوق الإنسان. والحقيقة كما ينحاز لها الراوي هي أن المهم هو الإنسان الذي لا يصح تصنيفه إلى أسود وأبيض وطيب وشرير وطاهر ومدنس فحتى إبراهيم ابن الخبازة لا يخلو من خير وعاطفة فهو يندم أشد الندم ويحاسب نفسه بقسوة لإحساسه بالذنب تجاه نجاة.
وبعيدا عن الدلالة وموقف رواية الشاهدة والزنجي من المجتمع والتاريخ فالرواية تقدم نفسها للقارئ على أنها العين أو الباصرة المثقفة والنزيهة التي تريه ما يجب أن يراه من مناطق يجب أن يصل إليها لكي تكتمل إنسانيته ولكي يكون قادرا على الحكم الموضوعي على ما يجري من دون انسياق وراء الأفكار أو المعتقدات أو وراء جهات، متورطة فيما يجري فكريا أو سياسيا أو إنسانيا، تصنع له الصورة وتقدمها لها ليكون أداة من أدوات الحروب المشبوهة.
أليس هذا في النهاية هو ما يجب أن يكون دور السينما الذي غاب واختفى ليحل مكانه اليوتيوب التحريضي الأعمى الذي يقود الكثيرين اليوم إلى التعصب والحقد والرغبة في الانتقام؟!