صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

بالشموع والياس.. “صينية زكريا” تجمع العراقيين من كافة الأديان والطوائف

يحمل حيدر الكرخي صحناً مسوّراً بالشموع، يحتوي على الحناء وأغصان من شجرة الياس والحلوى، واقفا أمام منزله بابتسامة طفيفة يرسمها للأطفال الذين يرتدون الدشاديش ويمرحون أمامه بالطبول والألعاب الموسيقية الإيقاعية. إنه يوم زكريا، الذي يقول عنه الكرخي خلال حديث لـ”العالم الجديد”، “واحد من العادات والتقاليد وجزء من الموروث الشعبي في العراق، لقد شاهدنا جداتنا مذ كنا صغارا حريصات على التحضير لهذا اليوم”.

يحمل حيدر الكرخي صحناً مسوّراً بالشموع، يحتوي على الحناء وأغصان من شجرة الياس والحلوى، واقفا أمام منزله بابتسامة طفيفة يرسمها أمام أطفال يرتدون الدشاديش، ويمرحون أمامه بالطبول والألعاب الموسيقية الإيقاعية.

بهذه الصورة يختصر الكرخي، طقوس “يوم زكريا”، الذي تحييه العائلات العراقية كل أول يوم أحد من شهر شعبان القمري، حيث يقول في حديث لـ”العالم الجديد”، إن “هذا اليوم يعتبر جزءا من الموروث الشعبي العراقي، وواحد من أبرز العادات والتقاليد التي توارثناها، حيث كنا نشاهد جداتنا مذ كنا صغارا، وهن يحرصن على التحضير لهذا اليوم”.

ويعد هذا اليوم، الذي تعود تسميته إلى “النبي زكريا”، واحدا من المناسبات التي يُجمع العراقيون على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، على إحيائها والاحتفال بها، ففيما يرجع بعض المؤرخين، أصل هذا الاحتفال الى الدين الصابئي، كون المناسبة مرتبطة بآخر أنبياء الديانة، وهو يحيى بن زكريا الذي سيبعث في آخر الزمان بحسب المعتقد، إلا أن المسلمين يحتفلون بذكرى “بشارة زكريا” التي وردت في القرآن الكريم، في حين يحتفل المسيحيون بها أيضا نظرا لكون زكريا زوجا لخالة مريم العذراء، وأنه هو الذي قام بكفالتها وتعميد السيد المسيح، لذا أطلق عليه يوحنا المعمدان ويحظى بمكانة جليلة لدى المسيحيين.

وطبقا لما يقوله الباحث والمؤرخ الموسوعي، علي النشمي، في حديث لـ”العالم الجديد”، فإنه “موروث وطقوس دينية قديمة تداولتها الأجيال السابقة، وامتد إلى اللاحقة حتى أصبح موروثا شعبيا”.

ويذكر النشمي، أن “المناسبة ترتبط بالأديان القديمة في العراق كالمسيحية واليهودية وحتى الصابئية، والتي كانت تنظر إلى النبي زكريا كنبي مقدس، وحين جاء الإسلام، فإنه لم يفرق بين الرسل، حيث أصبح الموروث طقسا عراقيا شعبيا ودينيا”.

وعن تفاصيل المناسبة يوضح، أن “النساء يطلبن في هذه المناسبة الحصول على الأولاد عبر وضع الياس والحلوى والشموع، وهذا جزء من طقوس الاحتفالات قبل الإسلام”، مؤكدا أن “زكريا يعتبر موروثا جامعا بين السنة والشيعة والديانات الأخرى في العراق، إذ تشارك فيه مختلف الطوائف بالطقوس المعتاد عليها”.

ويتمثل احتفال العائلات العراقية بكل انتماءاتها الدينية والطائفية بهذه المناسبة، في تقديم المشروبات والحلوى الشعبية، من قبيل السمسم المطحون بالسكر والأطعمة الأخرى، إلى جانب إيقاد الشموع وتزيين أبواب المنازل بأغصان نبات الياس وسعف النخيل والأزهار، فيما تنذر النسوة اللواتي لم ينجبن بإحياء هذه الذكرى او الصوم عن الأكل أو الكلام.

وعن طبيعة هذه الطقوس، في المحلات الشعبية القديمة الواقعة بجانب الكرخ، من العاصمة بغداد، يعود حيدر الكرخي، ليؤكد بالقول “بعد أذان المغرب، تبدأ العائلات بتبادل صحون الحلوى والأكلات الشعبية مثل الزردة والمحلبي وحلاوة التمن، مع غناء أناشيد محددة في أيام زكريا يتمنون فيها أن يعود عليهم العيد في كل سنة وهم بخير”.

وترجع المرويات الشعبية هذه المناسبة في جميع الديانات إلى اليوم الذي بشرت فيه الملائكة نبي الله زكريا عندما كان قائما يصلي بأنه سيرزق بمولود ذكر اسمه “يحيى”، وهو أمر ذكر في سورة مريم بالقرآن الكريم.

ويلمس مصطفى فارس، صاحب متجر مختص ببيع تجهيرات زكريا، خلال حديثه لـ”العالم الجديد”، “رغبة شديدة من العائلات البغدادية في الحصول على هذه التجهيزات، والاهتمام بهذا اليوم، حتى أن نسبة الطلب تقترب من أعياد رأس السنة وعيد الحب وغيرها”، لافتا إلى أن “الطلب يصله أيضا من العائلات المغتربة التي تحاول الحصول على مستلزمات زكريا عبر توصيات من الأقارب”.

ويوضح فارس، أن “المناسبة غالبا ما تتميز بطلب الحصول على الأولاد أو طلب نذر آخر”، مبينا أن “أدوات زكريا أغلبها من الفخار والخوص والطبك والنوروزية والتنكة والبتسوكة والأدوات التراثية التي تمنح الأجواء طقوس تراثية وتاريخية”، مؤكدا أن “النساء المسنات غالبا ما يقمن بالتبضع لأحفادهن والحصول على تجهيزات زكريا”.

ويشير إلى أن “أغلب المواد الخاصة بالاحتفالية محلية الصنع عدا المستورد والذي يأتي خصيصا للعراق وهذا يعني بأن الاحتفالية يتميز بها العراق فقط من بين الدول الأخرى”، لافتا إلى أن “الإقبال قوي جدا على شراء أدوات مناسبة زكريا”.

يشار إلى أن هذه المناسبة، ووفقا لرجال الدين، فإنه لا أصل ديني لها، لكنها تعد من المناسبات الاجتماعية الموروثة، ويحتفل بها أغلب سكان المدن في بغداد، وبعض المحافظات الجنوبية، ومن كافة الأديان والمذاهب.

ويقول رامي صاموئيل، إن “عيد زكريا من المناسبات التي توحد جميع العراقيين، ونحن كمكون مسيحي نحتفل به باعتبار أن زكريا هو زوج خالة مريم العذراء، ووالد النبي يحيى الذي عمد سيدنا عيسى”.

ويوضح صاموئيل، أن “الاحتفال يكون عبر وضع صينية من الحلويات والشموع والياس، ويطلب في هذا اليوم الحصول على الأولاد بالتزامن مع الليلة التي تلقى فيها النبي زكريا بشرى ولادة ابنه النبي يحيى في عمر الـ92″، متابعا أن “الاحتفالية لا تقتصر على طرف معين وتشارك فيها اغلب الطوائف والمكونات العراقية”.

وعن الطقوس التي يمارسها الصابئة المندائيون في هذا اليوم، يذكر الناشط إحسان الفرج، لـ”العالم الجديد”، أن “الصابئة يشاركون في أعياد زكريا من باب الممارسة الاجتماعية ولا تعتبر عيدا رسميا”.

ويوضح الفرج أن “اغلب الطوائف الدينية تشارك في طقوس الاحتفالية كمورث اجتماعي، ويقومون بإحياء هذا اليوم في الشوارع بالطقوس والعادات المتوارثة نفسها”.

وإذ يخرج الأطفال في الشوارع والحارات، وهم يحملون الدفوف الفخارية محلية الصنع، وهم يتغنون بذكرى هذه البشارة، مرددين أغاني شعبية خاصة من بينها “يا زكريا عودي عليّه.. كل سنة وكل عام نشعل صينية”، فيما يتبادل الجيران مساءً، صواني الطعام التي تحتوي على الأباريق الفخارية الملونة، كما توقد الشموع على قطع من سعف النخيل التي تطفو فوق مياه الجداول المنتشرة جنوب العراق.

إقرأ أيضا