كما يمثل الانحياز الاعمى والمندفع الى اي طرف سياسي، حالة سلبية مرفوضة، فإن الانحياز الاعمى والمندفع طرف آخر، يمثل حالة سلبية ايضا، ليس مهما ان تكون مع من، او ضد من، ويفترض ان ذلك مكفول في الدستور العراقي وجميع الدساتير الديمقراطية في العالم. لكن المهم ان تكون متوازنا عقلانيا حينما تكون مع او ضد طرف بعينه، التوازن هنا يعني بالضرورة توفر الافق والبصيرة والقناعة التي تعيد وتراجع ذاتها بين الحين والاخر، قناعة تمتلك الشجاعة الكافية والذاكرة الوافية القادرة على استرجاع المواقف ومراجعة الحسابات ووضع النقاط على الحروف. ليس ذلك شيئا ترفيا، ولا من باب المثالية ابدا، فالمصلحة الحزبية والتوجهات الخاصة وبدوافع براغماتية بحتة يفترض بها ان تدفع اصحابها الى اعادة الحسابات مرات عديدة من اجل ضمان مصالحهم على الاقل، والاذكياء من يستطيعون توفير مسارات تنسجم فيها مصالح الخاصة مع مصالح العامة وتبتعد قدر المستطاع عن الصدام. من يفهم السياسة على انها محض كذبة فقط فهو واهم، هناك مساحة متروكة للكذب في السياسة وهي في كثير من البلدان الديمقراطية مفهومة وواضحة والغامض منها في نهاية المطاف له حدود، لكن ليس من المنطقي ان يتحول السياسي الى ممتهن للكذب، في دورة انتخابية واحدة ينكشف على حقيقته ولا يعيد انتاجه احد، هناك الكثير من الاحزاب تحرص على سمعتها امام الجمهور اكثر من اي شيء آخر، على الاقل لان السمعة الطيبة توفر مزيدا من فرص الفوز في الانتخابات وهذا يعني تحقيق المزيد من المصالح. ان الترابط المصلحي بين المصالح الشخصية للنافذين في اي حزب من جهة وبين الناخبين بشكل عام ترابط استراتيجي يوفر للجانبين مساحة من المصالح المشتركة. هذا العقد الاجتماعي يحرص كثيرون على الحفاظ عليه قدر المستطاع، وهذا ما يسعى لتحقيقه الكثير من الاحزاب في العديد من البلدان الديمقراطية. هناك عشرات الاحزاب يتجاوز تاريخها قرنا من الزمان، ولو كانت تلك الاحزاب تقتات على مجرد الكذب لانتهى بها المطاف في سلة المهملات، ولكن بقاءها منافسا قويا في ساحات مفتوحة بحد ذاته يمنحها شيء من المصداقية، اذ انها بالضرورة استطاعت ان تخلق لها جمهورا عريضا على الاقل ابقاها في دائرة المنافسة.
ان التوازن بين الوعود وبين تحقيقها ليس سبة في التجارب السياسية الناضجة. وهذا خلاف ما يروج له في الساحة العراقية. الغريب ان كثيرا من الساسة العراقيين قدموا من بلدان لها تاريخ ديمقراطي عريق، فهل هي المصالح الانية جدا والربح السريع الذي اعماهم، ام انهم اثبتوا نظرتهم السطحية وقراءتهم البائسة للتجارب السياسية التي عاشوا بظلها فترات من الزمن. على الاقل كان عليهم وبدافع الحفاظ على مصالحهم الشخصية والحزبية تسويق خطاب تتوفر فيه حدود دنيا من المصداقية! معظم القوى السياسية العراقية وبعد ان خسرت جمهورها بسبب امتهان الكذب ربما لم يتبقّ امامها الا اعادة انتاج الورقة الطائفية بمظهر اكثر اناقة من ذي قبل.
gamalksn@hotmail.com