لأسباب مختلفة تسعى الكثير من بلدان العالم الى تشييد وتأهيل مدن على غرار العواصم، بغية توزيع الادوار من اجل تخفيف الضغط عن العاصمة وتوفير بدائل مناسبة بامكانها استضافة مختلف الفعاليات السياسية، الثقافية، الفنية والرياضية. واذا ما كانت العاصمة السياسية في الولايات المتحدة الامريكية هي \”واشنطن\” فإن \”نيويورك\” تعتبر العاصمة الاقتصادية لذلك البلد، كما ان المتابع لنشرات الاخبار يلاحظ ان مدينة \”لاهاي\” تتكرر في وسائل الاعلام اكثر من \”امستردام\” حتى وان كانت الاخيرة تعتبر العاصمة الرسمية لهولندا، فيما يتعلق بإسبانيا مثلا نسمع عن مدينة \”برشلونة\” ربما اكثر مما نسمع عن العاصمة \”مدريد\”، وعلى هذا الغرار تتكرر المعادلة في مختلف بلدان العالم.
في العراق، ولأن كل الاشياء مختلفة تماما عن البلدان الاخرى، ولأن اخطاءنا مضاعفة الى حد الجنون، فإن العاصمة \”بغداد\” تتحمل عبئا استثنائيا في ظل نظام اداري وقوانين تعتمد المركز في كل شيء، لذلك اصبحت بغداد هي المدينة الاولى والاخيرة على مستوى العراق. وهذا ما جعل الجماعات الارهابية تعتبر الرهان الاول والاخير هو بغداد، طالما كانت بعثرة الاوراق فيها تعني إيقاف عجلة الحياة في جميع المجالات، ذلك ايضا دفع معظم الساسة العراقيين الى ترشيح انفسهم في بغداد بدل المدن التي ينتمون اليها. الاسباب المتقدمة ذاتها دفعت الاعلاميين، المثقفين، الادباء والشرائح النخبوية للهجرة الى بغداد افواجا أفواجا لأنها لا تجد ضالتها إلا هناك!
لجميع ما تقدم، كان الاولى بالمعنيين في هذا الامر التفكير من اجل توفير بدائل مناسبة في مناطق اخرى من العراق، لتخفيف الارهاق الملقى على بغداد بدل تجريب خطوات عديمة الجدوى على غرار الفردي والزوجي.
إن الوضع الامني المتردي جدا الذي تعيشه بغداد طيلة الفترة الماضية يستدعي التفكير الجدي بنقل العاصمة لمكان اخر ولو بشكل مؤقت، حتى مع عدم وجود مدن عراقية ترتقي لتلك المهمة، الا ان وضع خطة عمرانية محكمة لا تتجاوز الثلاث او الاربع سنوات يمكن ان توفر بديلا واقعيا افضل بكثير مما عليه الوضع الآن في العاصمة الحالية، والذي لا يمكن معه على الاطلاق وضع جدول زمني يشير الى استقرار امني بمستوى مطلوب، خصوصا وان بغداد محاطة بحزام يمثّل تحديا استراتيجيا لامن العاصمة، لانه كان دائما وابدا بؤرة للتوتر.
ان هذه الخطوة ليست بدعة في ظل متغيرات سياسية كالتي تحصل في العراق، فهناك بلدان استبدلت عواصمها لأسباب اقل اهمية بكثير من الاسباب الامنية الملحة. ففي ايطاليا وبعد ان كانت العاصمة هي مدينة \”تورينو\” اصبحت مدينة \”فلورنسا\” عاصمة ايطاليا منذ عام 1865 حتى عام 1871 ثم بعدها اصبحت \”روما\” الحديثة هي العاصمة الايطالية، وفي فنلندا انتقلت العاصمة من مدينة \”توركو\” التي اختيرت في فترة الاحتلال السويدي لفنلندا لقربها من السويد الى مدينة \”هلسنكي\” في عام 1819 باعتبارها الاقرب الى روسيا، وكان ذلك في زمن الاحتلال الروسي، في باكستان ايضا نقلت العاصمة من \”كراتشي\” الى \”اسلام اباد\”، وفي نيجيريا اصبحت العاصمة \”ابوجا\” بعد ان كانت \”لاغوس\”.
هناك بلدان نقلت عواصمها من مدينة الى اخرى بسبب الزحام والكثافة السكانية! وهناك بلدان تفكر في ذلك لذات الاسباب، فما بالك اذا وصلت الامور الى هذا الحد المخيف من التراجع الامني؟!
اذن هناك دواع كثيرة جدا تتطلب تغيير العاصمة العراقية من بغداد الى مكان اخر، وكذلك المباشرة في تهيئة البدائل المتعددة في بقية المدن العراقية. الملفت ايضا ان معظم الدوائر الحساسة في بغداد تتركز في منطقة واحدة وهي المنطقة الخضراء، وعلى غرار تلك القرية الدبلوماسية يمكن ان تقام قرى دبلوماسية بمختلف الالوان في مناطق مختلفة من العراق. فيا سادتي افسحوا المجال ولو قليلا لمدينة بغداد حتى تلتقط شيئا من الانفاس.
gamalksn@hotmail.com