بديهيات فاسدة: البعث السني وجمهورية قاسم الشيعية! (2-3)

النزوع الطائفي الفردي:

في كتاب حسن العلوي \”الشيعة والدولة القومية\” ثمة إحصائيات عن كل شيء: رؤساء الوزارات والوزراء ووقادة الأحزاب والشعراء وأعضاء البعثات الدراسية.. إلخ، والهدف منها ثابت لا يريم وهو: إثبات تمذهب الدولة القومية أي اتخاذها المذهب السني عقيدة، وانتماء، وولاء، وبالتالي معاداة للمذهب المقابل الشيعي وأهله.

إن لغة الأرقام والإحصائيات المنتزعة من سياقاتها والمنظور إليها بانتقائية شديدة لا تساعد كثيراً على فهم الظاهرة.

فالتمييز الطائفي ضد الشيعة، والقومي ضد الأكراد وأبناء الأقليات العراقية الأخرى،  والذي تريد إثباته، هذه المنهجية، واقع ثابت لا أحد يدعي إنكاره، حتى من قبل بعض الطائفيين أنفسهم. ولكنه – بخصوص التمييز الطائفي تحديدا- واقع وممارسة فرديين، ونزوع شخصي يرتبط بالتدين النخوبي أكثر منه توجه رسمي ومعلن للدولة وحزب البعث الذي قادها في العراق، ويمكن أن نستثني التمييز والاضطهاد القومي ضد الأكراد خصوصا من هذا التحديد الماهوي.

إنَّ التمييز الطائفي والحزبي الفردي ليس هو مفتاح فهم المسألة، لأنه مشكلة فردية تحل في ساحات القضاء، وليس توجها معلنا ورسميا وبرنامجيا تتبناه الدولة أو الحزب الحاكم كما هي الحال في التمييز العنصري في جنوب أفريقيا سابقا ليتحول إلى مشكلة اجتماعية وسياسية آنذاك.

وهنا ينبغي النظر إلى التمييز الطائفي والقومي على أنه جريمة جنائية ومخالفات للقانون ساحتها القضاء في دولة ديموقراطية علمانية تقوم على أساس المواطنة الكاملة والمتساوية لجميع العراقيين مستقبلاً.

وحتى ضمن الحدود التي أرادها الكاتب حسن العلوي، فإن لغة الإحصائيات المسلوخة عن سياقاها التاريخي  قد تنقلب عليه، فهو حين يستنقي بعض ما يعضد توجهاته الكتابية من إحصائيات، كأن يريد أنْ يثبت أنّ الدولة القومية وحزب البعث يقومان على المذهبية والطائفية فإنّ من حق الطرف الآخر أن يأتي بإحصائيات منتقاة هي الأخرى ليثبت أن حزب البعث حزب شيعي من حيث التأسيس فمؤسسه هو فؤاد الركابي وهو شيعي، ومن حيث تركيب قيادة هذا الحزب التي قادته إلى السلطة في انقلاب 8 شباط 1963، حيث كانت نسبة الشيعة الثلثين والسنة الثلث.

إنّ  حسن العلوي نفسه يذكر على الصفحة 216 من كتابه هذا، أن أعضاء قيادة حزب البعث التي قادت انقلاب 8 شباط 1963 من الشيعة هم: طالب شبيب، حازم جواد، محسن الشيخ راضي، هاني الفكيكي، حميد خلخال إضافة إلى مؤسس وزعيم البعث فؤاد الركابي، ولم يذكر المؤلف أسماء الأعضاء الثلاثة الآخرين من السنة. كما يمكن للطرف المقابل، وبناء على هذا المنطق السطحي والخاطئ، أن يحمل الشيعة والتشيع مسؤولية القمع الدموي ضد القوى الديموقراطية واليسارية بذكر اسم أشهر جلاد بعثي في العراق المعاصر وهو الشيعي ناظم كزار.

إن هذه الإحصائيات يوردها الكاتب نفسه، لكنه كما يبدو توقع أن تكون دحضاً لما أراد إثباته، فخرج علينا بهامش في تلك الصفحة نفسها من كتابه، يستدرك فيه أن هؤلاء الشيعة الانقلابيين الذين يؤلفون ثلثي قيادة حزب البعث (هم شيعة \”مجازيون\” وليسوا الحقيقيين الملتزمين بحدود دينهم) وكان الأصح أن يقول (الملتزمين بحدود طائفتهم ومذهبهم)! 

والعلوي يقصد هنا،  أنهم شيعة بالاسم وبعثيون في الحقيقة، وهذا هراء محض إذ أنَّ السؤال يظل قائماً، أليس من حق الوزراء والمسؤولين السنة الموصوفين بالطائفية أنْ يقولوا نحن أيضاً (سُنة مجازيون وبعثيون في الحقيقة) وكما يقول المثل الشعبي السائر: كلنا أولاد تسعة! 

المرجع الحكيم وأولاده :

في هذا السياق، ثمة ما يشبه الطرفة يرويها العلوي وينسبها إلى القيادي البعثي \”الشيعي\” هاني الفكيكي سنوردها كما هي لما فيها من مغاز عميقة وبراهين إضافية تؤكد لنا أنّ محاولات تصدير البديهات الفاسدة ستكون فاسدة.

ففي هامش على الصفحة 216 من كتابه سالف الذكر يكتب حسن العلوي بطريقته الحكواتية (حدثني السيد هاني الفكيكي عضو المجلس الوطني لحكومة الانقلاب أن الإمام الحكيم – يقصد المرجع الشيعي محسن الحكيم الذي كان من ألد أعداء عبد الكريم قاسم ولكن لأسباب طبقية وأخرى تتعلق بعلاقات سياسية إقليمية، رغم أن الأخير أوصى بأن يطلبوا من الحكيم ان يصلي عليه إذا مات مع أنه سني المذهب من جهة أبيه ومن عشيرة زبيد القحطانية المعروفة، ولكن المرجع رفض تنفيذ الوصية – قد طلب حضوره مع العضو الآخر محسن الشيخ راضي قائلا (أريد أشوف أولادنا) فكان جوابهما أن بإمكان الحكيم أن يوجه رسالة إلى حزب البعث وهو سيختار من يتحدث إليه. وحين سألته عن سبب هذا الموقف لا سيما والوضع الطائفي لسلطة الانقلاب كان واضحا قال الفكيكي (ما علينا إذا كان الآخرون يسيئون للصفة الحزبية ولمبادئ الحزب).

لنترجم ما أراد العلوي قوله فهو يكتب غالبا بتلك اللغة الشعبية المحببة التي يدردش بها المسنون البغادة في المقاهي.

لقد أراد حسن أن يقول  إنّ المرجع الشيعي، محسن الحكيم، وقد رأى أن قيادة انقلاب 8 شباط الدموي كانت شيعية في غالبيتها، فقد رغب في أن يلتقي \”بأولادنا\” أي الشيعة\”، ولكن هؤلاء تصرفوا كبعثيين \”حقيقيين\” فرفضوا طلب المرجع وفوضوا قيادة حزبهم تسمية مَن ينبغي أن يلتقي بمرجع الطائفة! 

الانقلاب الأسري في البعث: 

لم نشأ في هذا الاستطراد، نفي الطائفية عن طائفيين قولاً وفعلاً، كما تقدم وخصوصا بعد الانقلاب الداخلي الأُسري والذي وصلت بنجاحه بضع أسر في قضاء تكريت ترتبط بعلاقات قرابة إلى قمة هرم الحكم ومنها أسر البكر والمجيد وحردان وطلفاح وغيدان وغيرهم. وتكرس هذا الانقلاب الداخلي نهائيا بوصول وسيطرة أسرة المجيد (صدام وولداه قصي وعدي و إخوانه من أمه وأبناء عمه وأصهاره وبعض الدمى من التابعين) على الحكم وأغلبهم من أسرة وعشيرة وطائفة واحدة، وانسحبت أسرة البكر والأسر الأخرى أو أجبرت على الانسحاب من قمة هرم الحكم نهائيا بعضها بشكل عنيف والآخر بشكل مريب..

وعلى الرغم من ذلك، فلم يتحول النظام الصدامي إلى طائفي فعلا وبعمق، بل إلى نوع من الحكم المطلق الأسري المسنود بجهاز أمني مرعب ودموي ومنظمة حزبية أشبه بمنظمات المافيا فكان هذا النظام هو الأكثر رجعية من أي حكم طائفي أو قومي ولم يعد يربطه بالبعث فكراً وتجربة شيءٌ سوى الاسم.

إن قراءتنا هذه تحاول – ضمن ما تحاول – إثبات الخلل المنهجي في بعض القراءات الأخرى، المشوبة بالانحياز الطائفي أو الفئوي أو الفقيرة منهجيا بسبب فقر أصحابها العلمي، فكما نعتقد أنّ اللف والدوران حول ظاهرة ما، لا يجعلها مفهومة، و أنّ إغراقها بالإحصائيات الانتقائية والطرائف الشعبية لا يجعلها قابلة للتصديق بل إنها تكرس واقعاً مداناً ومرفوضاً حين تحمل أحد الطرفين المسؤولية وتبرئ الطرف الآخر.

إن المطلوب هو محاكمة نقدية صارمة، بأدوات معرفية صائبة، وشبكة مفهومية شديدة التماسك، تتناول الظاهرة في كليتها التاريخية، ليتم اختراقها تماماً وتعرية جذورها وأوهامها المتناقضة مع هذا النقد المعرفي بوصفه وعياً حضارياً متمرداً على أيقونات وتابوهات الطوائف والقبائل والعصابات الحزبية. 

قراءة أخرى مختلفة : 

إذا ما تركنا القراءات التاريخية العامة ذات الطابع الحكواتي والتي أتينا على ذكر مثال عليها هي قراءة حسن العلوي جانباً، وتناولنا بالفحص والتدقيق بعض القراءات الواردة في كتب متخصصة في شأن محدد من شؤون الحياة والمجتمع وليكن مثلاً متخصصاً بالشؤون العسكرية، فلا نكون قد ابتعدنا كثيراً عن الملامح والسمات العامة والأسس المركزية التي يقوم عليها الخطاب الطائفي الديني، لا بل سنجد أن نبرة الخطاب تكون عند بعض المتخصصين أكثر حماساً وعدوانية، وفي هذا بعض المفاجأة والعجب! فالمتوقع والمنتظر أن ينأى ذوو الاختصاص بأنفسهم عن أدلجة المفاهيم والرموز الطائفية ويركزوا جهودهم على دراسة الشأن الخاص الذي بين أيديهم وفق منهجية علمية صارمة كما هو شأن العاملين في ميادين كهذه.

إن تعليل هذه الظاهرة، ربما نجد جذوره في أن الخطاب الطائفي، وبخاصة فيما يتعلق بشؤون مؤسسات الدولة، ينحو منحاً بيروقراطياً تأسيسياً بوصفه حامل لنواة مشروع الدولة الطائفية القادمة والتي لابد لها من بيروقراطية متكاملة تقوم على أنقاض بيروقراطية ومؤسسات الدولة المتهمة بالطائفية والمهزومة.

وكمثال على هذه القراءات المتخصصة، سنقرأ نقدياً في الجزء القادم والأخير من هذه الدراسة كتاباً ألفه ضابط عراقي \”بعثي وشيعي\” برتبة عقيد ركن، كان قد انشق على نظام صدام حسين وهرب من الجيش بعد عشرين عاماً من الخدمة فيه والتحق بالحركات السياسية الإسلامية الشيعية. 

يتبع.

*كاتب عراقي

إقرأ أيضا