برهان شاوي يكشف أسرار (مشرحة بغداد) عن أسوأ تجربة عاشها

برهان شاوي اسم غرس نفسه بقوة وثراء إبداعي في حقل الأدب والإعلام عبر نتاج ثر…

برهان شاوي اسم غرس نفسه بقوة وثراء إبداعي في حقل الأدب والإعلام عبر نتاج ثر من الأبحاث والكتب والروايات والمجاميع الشعرية. 

 

شاوي الذي حمل بداخله السياسي والإعلامي والأديب، وجال عواصم عربية وغربية بحثا عن بلسم الحرية المفترض لعلاج روحه المريضة بحب الوطن، لم يجد مبتغاه حتى بعد عودته عقب 2003، وظل دائم البحث عن عشبة الوطن المختفي في ذاكرته وضميره الحر.

ها هو يفتح أزرار قلبه لـ”العالم الجديد”، ليبوح بأسراره وعذاباته، ولا يتردد بتعبيره عن الندم في خوض أسوأ تجربة مهنية عاشها وهي رئاسة هيئة الاعلام والاتصالات التي تسنمها بعد عودته الى العراق، ليصل به الحد الى نعت بعض مسؤوليها وموظفيها بنعوت وأوصاف قاسية.. لذا كان لنا معه هذا الحوار:

 

•في العراق مواضيع إنسانية غير عادية لم يتناولها الروائيون بما يكفي من عمق وفداحة وفرادة، هذه المواضيع لبلد يمكن أن أقول عنه بأنه أصبح مثل مشرحة، وأنا أستعير هذه الكلمة من عنوان روايتك (مشرحة بغداد)… كنتَ قد عِشتَ في ذروة المشرحة الواقعية في بغداد.. كان مجرد العيش لتكون شاهدا عليها يحتاج الى فترة كي تستعيد حواسك ككاتب وإنسان طبيعي، أقصد فترة نقاهة كي تبدأ الكتابة عنها.. كيف سطَرت مشرحة بغداد، ورائحتها ما زالت تزكم أنفك وأنوفنا؟

 

-أتفق معك جداً بأن هناك كماً كبيراً من المواضيع الإنسانية في تاريخ العراق الحديث لم يتم تناولها قط، بغض النظر عن عمق وفرادة هذا التناول، فتراكم الأحداث المهولة في حياة العراقيين من حروب وحصار وقمع واحتلال، وانتهاك لكرامة الإنسان، وتحطم المنظومة القيمية، وابتذال الديني والدنيوي، المقدس والمدنس، وكل هذا التاريخ المتخم بالدم، وهذه الصفحات المظلمة من الإستبداد الشرقي المرعب، لم تتناسب عددياً.. 

أولاً: مع ما يكفي من الكتاب كي يتمكنوا من تناول كل هذا الكم من الموضوعات الدرامية والمأساوية والتي تصلح للتناول في السرد الروائي، وثانيا: سرعة إيقاع الأحداث بحيث صار ليس من السهل اقتناص حركتها التاريخية غير المنظورة، ولا أقصد هناك تاريخ حدوثها، وإنما صيرورتها التاريخية السرية، وموقعها تاريخيا عبر تموجات الزمن العاتية، وثالثاً: طبيعة السرد الروائي تحتاج للتحضير والتخطيط، فالرواية ليست قصيدة، أو لوحة، أو حتى نصاً مسرحيا. ومن هنا يمكن القول بأن هناك كما هائلاً من الموضوعات البكر التي لم يتم الإقتراب منها، حتى ضمن المرحلة الواحدة.

أما إذا كنت تقصدين العقود الثلاثة الأخيرة منذ بدء الحرب العراقية الإيرانية، مروراً بفترة الحصار، وانتهاء بمرور عقد على سقوط نظام البعث، واحتلال العراق، فأنا أتفق معك أيضاً، بأن البلاد تحولت إلى مشرحة، لكنها منذ عقود ثلاثة، بدءاً من الحرب العراقية الإيرانية تحول العراق إلى مقبرة كبرى ومشرحة مهولة، لكن إذا ما كان ضحايا الحرب سقطوا نتيجة صراع وحرب مع عدو خارجي، فإن ضحايا السلطة الاستبدادية في العراق كان يوازي أو أكثر ممن سقطوا في تلك الحرب المجنونة التي دامت سنوات ثمانيَ. بيد أن العقد الأخير تمّ تناوله بشكل ما أفضل مما جرى لفترات أخرى من تحولات المجتمع العراقي في العقود السابقة.  وأقصد هنا أولاً: من ناحية الكم، فعدد الروايات خلال عقد من الزمان يُعد متميزا مقارنة بالإنتاج الروائي خلال عقود أخرى، وثانياً: من ناحية التقنية الروائية، وتنوع أسليب السرد الروائي ومساحة الكشف في القول.

أما روايتي (مشرحة بغداد)، فهي تتخذ من الحرب الطائفية التي تفجرت في 2006 والإرهاب اليومي الذي طال العراقيين، لاسيما في بغداد، فقد كانت صرخة احتجاج على كل هذا الرعب الذي وصلنا إليه، بحيث تحولت البلاد إلى مشرحة كبرى.. علما أن فكرة الرواية تعود لأكثر من ثلاثة عقود من الزمان، حينما كنتُ طالبا قي السنة الأولى من دراستي في معهد السينما بموسكو، وانبثقت بمساعدة صديقتي التي تزوجتها في ما بعد، وكانت تدرس الطب آنذاك، حيث ذهبت إلى مشرحة الطب العدلي بإحدى المستشفيات، مرتدياً مئزر طلبة الطب الأبيض، وشاهدت بعينيّ تشريح عدد من الجثث، ومن لحظتها جرى انقلاب عاصف في داخلي.. رأيت المصير البشري الرهيب، حيث الجسد البشري الذي يُستفز على وخز إبرة كيف يتم فتح جمجمته، أو يشق صدره وتستخرج أحشاؤه، وكيف يتم التعامل مع الجثامين وكأنها ذبائح في دكان قصاب. هذه الفكرة ظلت مختمرة في ذهني لثلاثة عقود، إلى أن وجدت نفسي أريد أن أعبر عن الكابوس العراقي الذي وجدنا أنفسنا فيه بعد الاحتلال، محاولاً رصد التحولات التاريخية العنيفة التي جرت في المجتمع العراقي، فوجدت نفسي أستعيد أجواء المشرحة لأدون شهادة عن الرعب التاريخي العراقي الذي لا نزال نعيشه حتى هذه اللحظة. لكن كما بدا لي في ما بعد، فقد كانت رواية (مشرحة بغداد) تمرينا أولياً لما ذهبت إليه في كتابة رباعيتي التي صدرت منها لحد الآن ثلاث روايات هي (متاهة آدم، متاهة حواء، متاهة قابيل)، أما الجزء الرابع فأنا على وشك الإنتهاء منه قريباً. 

 

•برهان شاوي من أين لك هذا الهدوء؟ أو هكذا أتصور هل أنا مخطئة؟.. أنا أحسدك؟ 

-لا أعرف إن كنت هادئاً.. أظن ذلك.. دائما أستذكر بيتا شعريا أظن أنه لرامبو حيث يقول: أنا أكثر البحار هدوءاً.. في أعماقي طبقات من الجحيم.. وغابات مظلمة، وسراديب مكتظة بالأشباح.. وأنين وأصوات وأصداء تأتي من بئر عميقة في النفس.. وهي التي تدفعني للكتابة الروائية.. أنا إنسان أعزل.. وربما هذا الهدوء هو من ظلال عزلتي..

 

•أنت لستَ إنسانا أعزل.. أنت نفسك، وتجاربك، قنبلة موقوتة..! هل لديك استرتتيجية للتوقيت، أم أنك تترك للزمن توقيت الانفجار..؟

-لا أدري.. لكني اكتشفت بأن لديّ الكثير مما أريد قوله.. أحس في داخلي حشدا من الأشباح والشخصيات الروائية التي تتزاحم من أجل أن تنفلت لتهيم كشخصيات روائية، وأحس أنني مقبل على كتابة عدد من الروايات.. أحتاج إلى الوقت فقط.. ليس لدي تخطيط وتوقيت لما أريد كتابته، لكني أحس نفسي وأنا في هذه المرحلة بأني مكرس للرواية.. حتى أني تركت خطتي لمواصلة كتاب (وهم الحرية).. أقصد التوقف عن المعتزلة وغيرهم.. كما توقفت عن مواصلة المجلد الثاني من كتابي (الدعاية والاتصال الجماهيري عبر التاريخ).. لدي عشرات القصص لعشرات من الشخصيات الروائية.. ربما ستجد نفسها في عدد من الروايات المقبلة.. أحتاج لعزلتي كي أكتب. 

 

•كيف استطعت في سلسلة رواياتك –الشاهدة –(الجحيم المقدس، مشرحة بغداد، متاهة آدم، متاهة حواء، متاهة قابيل)، أن تتحمل صوت مطرقة الألم على ذاكرة المَشاهد التي تعبر عنها بدقة الى درجة الرعب.. كيف اجتمعت كل مشاهد الرعب هذه في رواياتك مع ما لديك من رومانسية في قصائدك وشفافية في روحك؟ 

 

-أعتقد أن الشفافية، كما أفهمها، هي التي تساعد على الرؤية الصافية أكثر من النفس العكرة.. الرومانسية هي حزينة وسوداء بطبعها.. لقد عشت الحياة بطولها وعرضها.. خضت غمار السياسة وأنا في بداية مراهقتي.. واعتقلت في بداية العشرينات من عمري.. تعذبت.. اختفيت هارباً عن أعين المخابرات والأمن..عشت ستة أشهر متنقلاً بين محافظات العراق، لا أستقر بمكان خوفاً من الاعتقال.. إلى أن تمكنت من الهرب من العراق مشياً على الأقدام إلى سورية عبر معبر اليعربية.. ثم إلى القامشلي، ومنها إلى دمشق، ومنها إلى بيروت.. ومن هناك بعد سنة ونصف إلى موسكو.. ومن ثم إلى المانيا.. إلى أن سقط النظام الاستبدادي على يد الأميركان الذين أعلنوا أنفسهم محتلين وفق القوانين الدولية وتشريعات الأمم المتحدة.. في روايتي (الجحيم المقدس) أتناول الوضع الاجتماعي والسياسي العراقي خلال نهاية السبعينات.. وكنت قد كتبت تلك الرواية بين العامين 1986-1987، ونلت عليها منحة الكاتب الألماني الشهير هاينريش بول التي تمنح للكتاب الأجانب في المنفى.. ولم أكرر تلك التجربة لأني توجهت لحقول إبداعية أخرى كالمسرح والسينما والتدريس والترجمة والصحافة.. إلى أن عدت إلى العراق في النصف الثاني من العام 2005، فعملت في إحدى الفضائيات. وفي العام 2006 تفجرت أحداث سامراء.. وكانت الأخبار تتدفق بشكل مرعب، وكانت تصلني يومياً عشرات القصص التي تقشعر لها الأبدان.. فكانت خزيني ورصيدي من القصص والتفاصيل المرعبة والحكايات التي لم يتحدث عنها الإعلام ولا الساسة أبداً.. والتي استخدمتها فيما بعد في مشرحة بغداد.. والمتاهات.. لو وثقنا إرشيفياً وليس روائيا أو إبداعياً للجرائم التي ارتكبت في العراق، وأردنا توثيق القصص والأسماء وطريقة القتل فقط لاحتجنا إلى مئات المجلدات، لذلك حاولت خلال رواياتي أن أستل من هذا الخزين بعض قصص هذا العنف الرهيب لأسجل للتاريخ بعض تفاصيل هذه المرحلة.. وأعتقد أن هذه العقد الأخير يحتاج لإستيعاب هوله إلى عشرات الروايات. 

 

•ذكرت في جوابك بأن الرومانسية سوداء بطبعها، أنا لا أتفق معك أبداً فلدي رأي مخالف تماما.. والمسألة ليست أنني أخالفك فقط، فالرومانسية هي سر الاستمرار في الحياة والقدرة على البقاء مصراً على التواصل.

 

-يبدو أنك تقرنين الرومانسية بالحلم.. وبالأحلام الوردية.. وبالروح العاطفية.. أنا أقصد الرومانسية كما كانت عند الشعراء والكتاب الألمان والإنكليز.. نحت مصطلحها الشاعر الألماني (شليغل) في نهاية القرن الثامن عشر.. وكان يقصد بها هو الابتعاد عن النموذج الكلاسيكي الإغريقي.. ومواجهة عقلانية العالم الكلاسيكي بالعاطفية.. حيث الحنين إلى اللانهائي.. والوقوف على حافات الأشياء بمواجهة الهاوية.. وقد كثرت استعارات الليل، الوردة الزرقاء.. الحنين.. الهروب من الواقع.. التوجه للطبيعة.. مواجهة الموت.. والمرض.. والهيام بالمقابر للكشف عن مصير الإنسان.. الحنين إلى المغامرات المأساوية، إلى جانب البطل المنتحر والبطلة العليل المصابة بالسل.. وكل هذا الحزن المخيم على عوالم الأبطال والنصوص.. هذا ما قصدته وليس الرومانسية بمفهومها العاطفي باعتبارها طاقة الحلم التي نستمد منها القدرة على البقاء.. أي بمعناها التعالي والتسامي على الواقع.. فهذا المفهوم الشائع ليس له علاقة بالرومانسية كمرحلة وكمدرسة فنية.. 

 

•أين نجد الينابيع التي تأثر بها برهان شاوي روائيا..؟ 

 

-أنا مجموعة كل ما قرأت في حياتي.. لكني أعرف أن ثمة مرجعيات أدبية احتكمت إليها.. أنا متأثر بتقاليد الرواية الروسية في القرن التاسع عشر.. وبالتحديد دوستويفسكي وتشيخوف.. كما أعشق ستندال وفلوبير.. وإميل زولا.. وموبسان.. وهنري ميللر وكافكا.. وكونديرا وبول أوستر.. هؤلاء أساتذتي.. طبعاً بالتأكيد هناك كتاب آخرون.. لكني أحاول جاهداً أن أستفيد من كل هؤلاء الذين ذكرتهم.. مع الأخذ بنظر الاعتبار الظرف التاريخي والجغرافيا.. عموما أنا أميل إلى رواية كونديرا المعرفية.. إلى رواية بول أوستر التي استلهمت كافكا مع هنري ميللر وتقاليد تيار الواقعية القذرة.. واعتقد أننا نحتاج إلى الاستفادة من هذا التيار في الحديث عن هذا الكابوس العراقي المعاصر وهذا الانحطاط الاجتماعي والعنف اليومي.. أو نتجاوزه إلى ما وراء ذلك.

 

•تعمل بصمت وبغزارة.. حين أقول صمت أعني لست مُروّجا إعلامياً جيدا لأعمالك (رغم أنك كنت مديراً عاماً لقناة فضائية، ومديراً تنفيذيا عاماً لهيئة الإعلام والإتصالات لفترة قصيرة.. هل الترويج للأعمال المميزة موهبة أو لهاث أو مهنة أو فن.. أم يجب أن يكون هناك شخص آخر تماما غير الأديب ليقوم بذلك؟

 

-نعم.. هذا صحيح لحد ما.. فأنا أكتب في عزلتي، بصمت مطبق، أتواصل مع بعض الأصدقاء عبر الفيسبوك أو البريد الإلكتروني.. وأنشر دونما شوشرة أو مفرقعات إعلامية، لكن الأمر ليس له علاقة بالغزارة، وإنما له علاقة بطبيعتي في الكتابة.. أنا أعيش ما أكتبه.. أتقمص شخصياتي الروائية، مستفيداً من خبرتي السينمائية والمسرحية.. لذلك أحس بضجيج الأشباح والأصوات والأصداء التي تريد أن تخرج من أعماقي.. الكتابة هي بالنسبة لي علاج نفسي (ترابي)، أو بتعبير أرسطو حالة تطهير (كاثارثيس).. الكتابة عافية للروح.. وشخصيا أحس نفسي مأخوذاً بشخصياتي التي خلقتها على الورق.. أحبها.. أعيش معها.. أشفق عليها.. أبحث عن تبريرات لأخطائها وآثامهما.. وأحيانا كثيرة أحاول أن أواجهها بحقيقتها.. بوجهها لا بقناعها.. أتوغل معها إلى أعماقها المظلمة دونما حساب لأية منظومة أخلاقية أو أي تابو أو تحريم.. لدي عشرات من الشخصيات.. من الأوادم والحواءات الذين تكتظ بهم رواياتي.. لاسيما الثلاثية، وهي لحد الآن ثلاث روايات ضخمة من ناحية الطول..، لكني مع الأسف لست بارعاً في الترويج لنفسي ولأعمالي.. على الأقل عراقيا، وهذا ليس بغريب عليّ، فأنا سياسي فاشل.. وعلى الرغم من أني أكاديمي في مجال الإعلام.. ولدي مؤلفات في مجال الدعاية والتأثير الإعلامي.. لكني فاشل في أن أروج لنفسي.. فاشل في العلاقات العامة التي تقتضي الكثير من النفاق والتبجيل المزيف لأعمال تافهة لا تستحق حتى أن يضيع المرء الوقت في قراءتها، لكن أصحابها إما لديهم مواقع إلكترونية أدبية، وإما أنهم مسؤولو صفحات ثقافية.. أو.. أو.. وأنا فاشل في العلاقات الشخصية مع الآخرين..فأنا أعيش عزلتي بوعي.. لا أدعى ولم أُدعَ لأي مهرجان عراقي أو عربي.. حتى وإنْ كنتُ أعرف أني سأعتذر عن المشاركة فيه.. ناهيك عن المشهد النقدي العربي فهو بائس جداً.

 

•وإذا ما تحدثنا عن نقد أدبي ودراسات وبحوث نقدية إبداعية جادة..؟

-سنجدها في دول المغرب العربي..أما جماعتنا فصاروا نقاد فيسبوك.. والجو الثقافي العراقي مليء بالحسد والغيرة وتطغى عليه روح الانتقام والإخوانيات.. وعدم المتابعة.. وثقافتنا صارت ثقافة صحافية.. أي أنك تعرفين إنتاج الآخر الروائي من خلال عرض مختصر في بضعة أسطر لروايته.. ولا يتم الاعتماد على قراءة النص نفسه.. الدعاية والترويج يحتاج إلى موهبة.. في الغرب تقوم دور النشر عبر أقسام الترويج والدعاية بهذه المهمة.. أما لدينا فعلى الأديب نفسه أن يقوم بهذه المهمة.. وأحياناً تكلفه الكثير من ماء الوجه، ومن المهانة والإذلال، وليس كل أديب قادراً على هذه المهمة.

 

•كيف تصنف رواياتك من الناحية النقدية..؟ 

-هذه بالحقيقة ليست مهمتي، فهي مهمة النقاد.. وأعتقد أننا نفتقد لنقاد لديهم الصبر على قراءة النص فكيف تفكيكه والكتابة عنه، بموضوعية، محتكمين لشرط القراءة النقدية، وليس لشروط العلاقات الاجتماعية والضرورات الإقتصادية..

 

•أي الآثام قد تجد لها مبررا؟.. وما هي مراحل الإثم؟ وهل له درجات برأيك؟ وهل حدث أنْ بررتَ إثما اقترفته أنت؟ ومتى تكون قادراً على أن تسامح؟ وهل أن تسامحنا مع الآثمين تجاهنا يمر بمراحل أم يأتي هكذا نابعا من فطرة إنسانية أو وراثية أم إيمان لاهوتي؟

 

-(الإثم) هو مفهوم ديني وأخلاقي.. وهو مفهوم نسبي.. بل هو نسبي حتى في الأديان.. فما هو مباح و(حلال) في دين ما، هو (إثم) في دين آخر.. لستُ حاخاما ولا كاهنا أو شيخاً.. لا ولا قاضياً أخلاقياً كي أحكم على (آثام) الآخرين.. كل (الآثام) لها تبريراتها دينياً وقانونياً، وهناك بالمقابل من (العقوبات) التي (تصفّرها) و تلغيها.. بما في ذلك قتل الإنسان الذي هو أكبر الآثام التي من الصعب أن تجد لها تبريراً. 

بالنسبة لي شخصيا أجد أن خيانة الذات هي (إثم).. أما إذا كان سؤالك يشير إلى التعامل مع مرحلتين سياسيتين من تاريخ العراق الحديث، فأعتقد أن التسامح الاجتماعي مهم جداً، فقد نغفر لكن لن ننسى.. شخصيا أميل للتعاليم البوذية المسالمة.. وأجد في جميع (الآثام) البشرية علامات للضعف الإنساني.. ومن هنا تأتي قوة التسامح البوذية.. وليست أهوال العقاب التي تلوح بها الأديان..

 

•الحواءات اللواتي تكتظ بهن رواياتك.. كم هي درجة اكتظاظهن في حياتك الحقيقية.. وهنا أقصد المرأة – الحبيبة أو الرفيقة. من هي المرأة التي قد  تترك ندبا في قلبك أو شهوتك؟

 

-هناك أصداء وظلالات لهن عرفتهن.. لكن ليس بمعنى أنني كنت على علاقة شخصية بهن.. أبداً ليس هذا.. قد يكون هناك بعض الشيء من ملامح نساء عرفتهن وقابلتهن في حياتي.. استمعت لقصصهن.. منهن مباشرة أو عنهن، لكن ليس الشخصية الروائية تقريرا صحفيا عن شخصيات محددة، فمثلاً.. في روايتي (مشرحة بغداد)، أتحدث مثلا عن (حواء هانوفر).. هذه المرأة هي قريبتي.. وقد تحدثت عما جرى لها.. مع بعض التغيير.. وكذا الأمر مع (حواء البغدادي) التي تعمل في الإعلام.. لقد عرفت العشرات من العاملات في الإعلام، لكني اخترت قصة واحدة منهن، وكذا الأمر في (حواءات) سلسلة المتاهات، لكن بودي أن أوضح شيئاً في ما يخص (الشخصية الروائية)، إذ أن حيوية الشخصية وتوهجها في النص الروائي لا يعني بالضرورة أنها شخصية حقيقية، فهي أحيانا خلاصة لشخصيات مختلقة.. يقبس الكاتب ملامحها من شخصيات واقعية.. أحيانا أختار تفاصيل متعددة من نساء مختلفات وأنسجها معاً.. مثلما يقوم الحائك بأن يختار كرات الصوف والغزل مختلفة الألوان ليضفرها سوية في نوله، وبالتالي يقدم لنا سجادة فريدة في اللون والجمال، سجادة ليس لها علاقة بالمادة الخام وبكرات الصوف الملون.. هكذا هي الشخصية الروائية.. وبالمناسبة، فاني كثيرا ما تعلقت بنساء وهميات.. نساء حياتهن موجودة في الروايات فقط.. مثل (ناستاسيا فيليبوفنا) في رواية (الأبله) لدستويفسكي.. أو السيدة (مدام دي رينال) في رواية (الأحمر والأسود) لستندال، أو (السيدة أرنو) في (التربية العاطفية) لفلوبير، و(آنا كارينينا) لتولستوي.. لقد عشت معهن طويلاً  وعشقتهن في فترات معينة من حياتي.. والأمثلة كثيرة، مثل هاتيك النساء يؤججن الرغبة والمشاعر ويوهجن الخيال.

 

•على ذكر هيئة الإعلام والاتصالات لديك تجربة ثرية في وقت أقل ما يقال عنه في العراق (على قلق كأن الدم تحتي).. كيف يمكن أن تصف هذه الفترة في حياتك المهنية.. وأنت الرقيق كرزمة محبة داخل هيئة وظيفية.. هل يمكن أن أصفها هيئة لتصفية حسابات؟ 

 

-أسوأ فترة في حياتي العملية كانت هاتان السنتان التي كنت فيهما مديراً عاما تنفيذيا لهيئة الإعلام والاتصالات.. (2009-2011).. لقد كانت أكبر خطأ ارتكبته خلال حياتي الوظيفية.. لكن من الناحية الإبداعية أفادتني كثيرا جداً، فقد تعرفت خلال هذه الفترة على أوغاد وسفلة وأنجاس ومنحطين وقتلة يتخندقون في أماكن مهمة في الدولة العراقية، في مؤسساتها، و وزاراتها، وهيئاتها المستقلة (غير المستقلة أصلاً)، وبرلمانها… هناك أناس قتلة، وسفلة، وأوغاد، ومنحطون أخلاقياً.. وانا هنا لا أشتم، ولا أتحدث مجازاً.. وإنما أسمي الأشياء باسمائها.. هناك تزوير هائل في الشهادات، وهناك طابور خامس من إعلاميين وموظفين، ومختصين.. يعملون لجهات حزبية ولاءاتها للبلدان المجاورة.. شخصيا اصطدمت بمجموعة قذرة من هؤلاء المسؤولين ودخلت صراعا مكشوفاً معهم على شاشات التلفزيون وعلى صفحات الجرائد.. لقد انتصروا عليّ وظيفياً.. شوهوا سمعتي ما استطاعوا.. وهو سلاح العاجزين، لكني خرجت من هذه المعركة معافى الروح والضمير.. معافى إبداعيا، فكل هؤلاء الأوغاد والسفلة، والقتلة المأجورين والطائفيين، والقوادين المتدينين، ومزوري الشاهدات، والعاهرات المثقفات.. كلهم.. أدخلتهم إلى متاهاتي.. إنه الجحيم العراقي بكل رعبه التاريخي. 

 

•لا أعتقد أنهم استطاعوا أن يشوهوا برهان شاوي أكثر من تأكيدهم لتشوهاتهم الفكرية، (هذا ليس رأيي فقط، بل رأي معظم المراقبين المنصفين في العراق).. متى بتوقعك قد نصل إلى أن نسمي الأشخاص بأسمائهم بدل الصفات التي ذكرتها في ردك السابق (الأوغاد والسفلة، والقتلة المأجورين والطائفيين، والقوادين المتدينين، ومزوري الشهادات، والعاهرات المثقفات)  كما نسمي الأشياء باسمائها كما ذكرت؟

ج: تعرفين أنا رجل إعلام..أعرف ما هو المسموح به وما هو يقع في باب الطعن والتشهير.. في صراعي الإعلامي المكشوف معهم كانت الأشياء تسمى بأسمائها.. لكن في الأدب والإبعاد فهناك جماليات للنص الإبداعي تفرض عليّ إستخدام الإيهام والرمز..لقد رمّزت لجميع الرجال ب (آدم) ولجميع النساء ب(حواء)..أما هؤلاء (الهؤلاء) فأنا أعف من أن أسميهم بأسمائهم…لأنهم ليسوا أفراداً فحسب وإنما هم النخبة السياسية التي تقود العراق اليوم مع الأسف.. هذه ليست مهمة الإبداع.. وإنما مهمة الإعلام. 

 

• متاهة آدم.. روايتك هل هي متاهة الانسان العراقي بصورة خاصة؟

ج: روايتي (متاهة آدم) هي الأساس الذي بنيت عليه رباعيتي..التي صدرت منها لحد الآن ثلاث روايات مسلسلة هي (متاهة آدم، متاهة حواء، متاهة قابيل). وهي وإن تتخذ من العراق منطلقاً جغرافيا لأحداثها .. إلا أن ترحل إلى أزمان وجغرافيا أخرى.. هي متاهة الإنسان بشكل عام.. ومن هنا فأنا تعمدت أن أسمي جميع أبطالي الذكور ب( آدم) وجميع النساء ب(حواء)..وأحيانا أستخدم (هابيل وقابيل) أو (إيفا) إذا كانت المرأة أوربية، وكما تعرفين (إيفا) هو نفسه (حواء)..وبالتالي يمكن القول بأن متاهة آدم هي متاهة الإنسان المعاصر..إنها متاهتنا جميعاً.. 

 

• التاريخ ،الاديان السينما الفن التشكيلي الشعر الترجمة الرواية …هل نشاطاتك الفكرية هذه تعبير عن بحث عن الذات؟ أو بحث عن جدوى الوجود ككل ..ما مدى تاثير الروحانيات على برهان شاوي الإنسان ؟ 

ج: بالتأكيد..هي محاولة لإقتناص الجمال..لإقتاص لحظة الوجود الجمالي في تجليها..، وبالتالي محاولة للبحث عن الذات..ألم يقل جبران: بأن الجمال هو الأبدية تنظر إلى نفسها في مرآة، وأنتم الأبدية وأنتم المرآة..؟ أما تأثير الروحانيات علي..فقد عبرت عن ذلك من خلال إحدى شخصيات روايتي الجديدة التي لم أنته منها بعد، حيث تقول : 

قادني الدين إلى الإلحاد.. 

والإلحاد إلى الإيمان.. 

فاكتشفتُ نور ذاتي في الوجود المرئي واللامرئي.. 

وبين تديني وإلحادي تترامى مجرات من الأسئلة المضيئة والمطفأة .. 

وبين إلحادي وإيماني تتراقص مجرات من النور الضبابي.. 

وتتلاطم محيطات من الضوء الأسود.. 

 

• أنْ يعزل الاديب عن الحرية (حرية جسدية او فكرية)…كيف تصف هذه الماساة؟ 

ج: هي جريمة بحق الإنسان.. فالحرية ليست من حق الأديب وحده..وإنما هي شرط الوجود الإنساني. 

 

• لكن كيف تصف الاعمال العظيمة التي ظهرت من عمق السجون؟ 

ج: الحرية هي وعي الضرورة كما يقول سيبنوزا ثم كرر ماركس ذلك أيضاً.. وبالتالي فأن المفكر الحر الذي يعي الضرورة التاريخية في النضال لتغيير الحياة هو حر حتى لو كان وراء القضبان..بينما الذي خارج السجن لكنه خاضع وخانع وذليل لظروفه اللاإنسانية هو غير حر، وبالتالي أنا أفهم بأن هناك نصوصاً إبداعية كتبت في عتمة السجون ووراء القضبان، لكنها كانت تنشد للحرية، لأن مبدعيها كانوا أبناء الحياة الجديدة، وأرادوا تغيير واقعهم المظلم.. 

 

• هل هناك جحيم مقدس ؟ أية قداسة في الجحيم؟

ج: العراق هو جحيمنا المقدس..القداسة لا تعني الطهرانية.. القداسة تأتي من المعاناة والألم..الأم والحزن والمعاناة الإنسانية تحول الإنسان إلى قديس، والجحيم إلى مكان مقدس..وروايتي المعنونة (الجحيم المقدس) كان هذا هو سر عنوانها..العراق هو الجحيم المقدس..واليوم نعرف معنى الجحيم العراقي أكثر.. 

 

• في رواياتك الكثير من العنف والجنس والإغتصاب الذي وصفه البعض حد البرنوغرافيا..كيف تفسر ذلك..؟ 

ج: هذا صحيح..لا سيما في الثلاثية.. لكني أحاول جاهداً أن أخفف من جرعات العنف عند الكتابة، قياساً لما هو عليه في الواقع.. واقعنا عنيف جداً.. وما جرى ويجري عند قتل الضحايا هو غير إنساني، وبشع، وقاس، ومرعب. وانا أحاول أن أصور مشاهد هذا العنف بتفاصيلها..أعتقد هذه مهمة الأدب..فهو ذاكرة جارحة.. أما الجنس والإغتصاب، فهذا صحيح أيضاً..إن العقل الشرقي يرى في الإذلال الجنسي قمة الإذلال والإهانة.. الرجل الذي يعذب أقسى أنواع العذاب في السجن، ويتحمل ذلك، ثم يخرج، فينظر إليه كبطل، لكن حينما يغتصب هذا السجين، فأنه ينكسر..حتى لو تحمل التعذيب، إلا ان النظرة إليه تكون فيها الكثير من المهانة والدونية..وهذا واقع جرى ويجري في كل بلدان الإستبداد الشرقي..أما في ما يخص النساء والأغتصاب ..ومشاهد الجنس..فأنني أحاول أن أسقط عن الجنس رومانسيته التي تحوله إلى (أيروتيكا) وأشدد على حيوانيته وبهيميته التي تقترب من (البورنوغرافيا)..لكن (البرونوغرافيا) تكون اسماً على مسمى حينما تكون من أجل إيقاظ المشاعر الجنسية من خلال التوغل في التفاصيل.. أما حينما أتوغل في التفاصيل الجنسية عندما اصور مشهدَ اغتصاب مثلا، أو مشهد تفرضه الضرورة الإبداعية للكشف عن التحولات النفسية للشخصيات، فأن ذلك لا يكون (بورنوغرافيا) بالمعنى المبتذل والسوقي للكلمة، لأني أعتقد أن وضع البراقع والأقنعة والستائر الشفافة لا يفيد حينما يكون الأمر اغتصاباً.. وشخصيا لا مقدسات لدي عند الكتابة..لا أخلاق ولا عيب ولا حدود أو ضفاف سوى الشرط الجمالي والإبداعي الذي تفرضه الضرورة الإبداعية فقط. هذا هو احتكامي الوحيد.

 

• كيف ينظر برهان شاوي لبرهان شاوي من الخارج؟هل تستطيع أن تكون منطقيا في الحكم على نفسك أو أنت قاس أو واقعي في التعامل مع نفسك؟ 

ج: هذا سؤال صعب..يحتاج إلى تواضع حقيقي للإجابة عليه بوضوح..أقصد.. أن تملك القوة الروحية كي تتصدى لغوايات الذات المبدعة والمشاكسة والنزقة.. وبالتالي أحكام الذات على نفسها كثيراً ما تكون صعبة.. أنا لآ استطيع أن أكون موضوعاً للنظر.. ربما أحاول أن أتجرد لأتخيل هذا الشخص الذي اسمه برهان شاوي.. وبالتالي في محاولتي الإجابة على سؤالك ابحث عن مفرادات لتقييمه..لكني أعرفه. أعرف طفولته.. وصباه.. مغامراته الأولى..جموحه.. أولى تجاربه الجنسية.. أسئلته الروحية الأولى..شكوكه الدينية.. خطواته الأولى في السياسة.. إحباطاته السياسية.. علاقاته الأولى مع الكتابة..أعرف ظروفه العائلية البائسة.. أعرف كيف اشتغل على نفسه وذاته..كيف توغل في التاريخ والفكر الإنساني والأديان.. مغامراته في مواجهة أشباح المقدس المرعبة.. رفضه للفردوس لأنه يجده مملاً..فهو لا يستطيع العيش في مكان يبدو مثل الحديقة فقط.. وبالتالي..أنا أعرفه.. لكني في لحظات الكتابة..خاصة في الكتابة السردية الروائية. يكون كالممسوس..تنطلق منه الأشباح.. وصرخات القتلى والمعذبين..وفحيح النساء الشبقي.. وبوح النساء الوحيدات..والكتاب المهوسين..حينها لا أعرفه تماماً. 

 

إقرأ أيضا