بساط الريح.. على بغداد

يقرر علاوي العودة إلى الوطن بعد سنين طويلة، قتله الشوق والانتظار، هدّدته سنين الغربة والتنقل بين الاقطار، أمّه على فراش الموت، في آخر اتصال لها معه، طلبت منه الاسراع. يترك مشاهدة التلفاز ومتابعة الأخبار، ليحصّن روحة المترقبة من هول ما يُذاع، وإلى المطار، الطائرة العراقية المتجهة إلى بغداد، قُدس الأقداس التي سحرته من طفولته إلى هذا الزمان، جلس في مقعده 13 عند النافذة، مرّت ساعات قصار، والمشهد عنده يتلملم للقاء الوطن، دخلت الطائرة أجواء العراق، فرحّب القبطان بالمسافرين وأسمعهم أغنية (يا طيور الطايرة لسعدون جابر)، اغرورقت عيناه بالدموع وغفا، ثم استيقظ بعد حين على صوت المضيّفة الجميلة، وهي تبشّره بسلامة الوصول، طلبتْ منه بكل رقّة وحنان، أن يتهيّأ للنزول، فصفّق المسافرون لهذا المغترب الجميل، وأعطوه المجال لينزل قبلهم، إكراماً لمقدمه الميمون، فصارت حركاته بطيئة كأنما الخيال، وعند الباب أعطته مضيّفة أخرى وردةً حمراء، أخذها بلطف وخرج من الباب، استقبله آخر ليأخذ حقائبه الصغار، بكل أدب وترحاب، يمشي خلفه ويعطّره بجميل الكلام، يبلغه بسعادته لعودته إلى بغداد، أمّ المدن البيضاء. عند باب الدخول إلى صالة الوافدين، استقبله شخص مهيب، رحّب به وأخذه بالأحضان، أدخله غرفة جانبية ليستريح، مكتوب عليها (صالة انتظار المغتربين والدبلوماسيين) طلب منه جواز سفره بلطف وانسياب، ليكمل له اجراءات الدخول وتسهيل الأمور: حبيبي استريح، هسّه نختم الجواز ونحضرلك الجُنط، وسيارة بالباب اتوديك للمكان اللي تريد، كل المغتربين الراجعين، هم هدايا للوطن، وأحنه بخدمتكم. ثم أعطاه سيم كارت مشحون، ليسهّل له الاتصال بمن يشاء، حار علاوي من هذا الاستقبال، وهذه الحفاوة وعظم التكريم، اقبلت عليه حسناء أخرى، بصينية صغيرة عليها تشكيلة جميلة من تمور العراق، خنقته العَبرة، وهو يتناول التمرات، في غرفة مكيّفة نظيفة تملؤها العطور، سأله مدير الاستقبال: استاذنه العزيز، اتحب تاخذ دوش وترتاح؟ وبعدها اندزلك على غده عراقي، قوزي لو نفر كباب لو تبسي بيتنجان؟ وهذا كارت بيه أرقام تليفوناتنه، اشتحتاج، بس رمّش. شكره علاوي وطلب التعجيل بالخروج. دخل موظف ومعه حقائبه على عربة، طلب أن يرافقه إلى مرآب السيارات، أعاد له جوازه، بانحناءة وخشوع، ورفض بشدّة أن يأخذ الدولارات التي أخرجها له علاوي: استاذنه عيب، أنت ضيفنه العزيز، أنت ضيف العراق. لم يتمالك المغترب الجميل نفسه فنزلت دموعه ومسحها بكمّه القصير، حتى وصلوا المرآب النظيف، نزل السائق عجلاً، ليفتح صندوق السيارة السوداء العالية، يُصعد الحقائب، ثم يأخذ علاوي بالأحضان والقبلات، يفتح له الباب الخلفية ويغلقها عليه بهدوء، وقُبلةٌ عبرة الزجاج المظلل. تسير بهم العربة، علاوي يطلب من السائق أن يُطفئ المكيّف كيما يتنفس عطر الأجواء، وسأله عن أجرة التوصيل، فانزعج السائق من هذه الإهانة أيّما انزعاج، وطلب منه أن يغفو ولا يفكر بهذه التفاصيل، غفا علاوي وطار في حلمه الجميل، حتى صادفت رجّة في السيارة من حفرةٍ بالطريق، فاستفاق، ولم يزل في مقعده على الطائرة وهي تحطّ على مدرج الهبوط، وبمجرد توقفها، صار هرجٌ ومرجٌ في الطيارة، مهرجانٌ لتناول الحقائب والأكياس من الخزائن العلوية، تدافع المسافرون إلى الأمام، وانحشروا مع بعض. اشتبه علاوي بحقيبة كانت بجنب حقيبته وسحبها، صرخ رجلٌ بدين خلفه به والرذاذ يتطاير منه: هاي وين؟ اتريد تعلس الجنطة؟ عوفهه ياوَلْ. اعتذر علاوي بأدب، لكن البدين أذاع للجماهير المحتشدة الخبر، بأن علاوي علّاسٌ ونَگريٌ خفيف، فالتفتَ إليه المسافرون بنظرات استحقار واشمئزاز، وهو يحاول أن يداري فعلته باستغراب. فُتحت الباب، وكلما يريد علاوي الالتحاق بالطابور، تأتيه رفسة أو لكمة تسقطه مكانه، فقرر الانتظار لحين نزول كل الركاب، وكلما يمرّ عليه مسافر، يقذفه بنظره أو عبارة توبيخ، لمحاولته سرقة حقيبة الرجل البدين، وابتسامته الصفراء طُبعت على وجهه مع كل إشارة. فرغت الطائرة ولم يبق إلّا إياه، متسمّرا في مكانه، صاح به القبطان مزمجراً: تريد اتنام؟ يلّه فُضنه. ابتسم بوجهه واسرع بتناول حقائبه الصغار، ومرّ من قرب القبطان، فتبين أن خبر البدين وصل كذلك للقبطان.

عند باب الطائرة احتوته السموم ونفحات الغبار، وصارخٌ عليه من تحت يناديه: يلّه يابه، شنو قصتك؟ انريد انولّي، والباص بس عليك ينتظر. دخل وانحشر في الباص، هذا يسعل بوجهه، وذاك اشعل سيجارته، وطفل يجّر محزمه، والركاب يتلاطمون على فرامل السيارة، فمال على امرأة خلفه سهواً، كابساً نهديها، فدفعته بعنف وصرخت به: ثوَل، اشبيك؟ اوگف مثل هالزلم الواگفة. وصلوا صالة الوافدين، وما أن فتحت الباب حتى تقيأ الباص الركاب، سقطَ علاوي من هول الإعصار، سقطت نظارته، وداستها الاقدام، صار سجادة للأقدام، ثم نظر إلى ورائه فلم يجد من يعبره، قام ومسح ما تعلق به من تراب وأوساخ، وحاول اصلاح نظارته، لكنها صارت من الخردوات، دخل الصالة ونظر بتركيز إلى حشود الطوابير، يلتفت يمينه وشماله، علّه يرى من يستقبله أو يرشده، توجه إلى صالة كبار الشخصيات والضيوف، وحين أراد الدخول، ناداه من خلفه رجل: هـــــي! وين امولّي؟ وحين أخرج جوازه الأحمر للمنادي، طردهُ شرّ طردةَ، وعجّل في ابعاده، لقدوم وفد نيابيّ مع المسافرين. وقف علاوي آخر الطابور، خيوط العرق تنساب على وجهه ورقبته، ودخان المسافرين والموظفين يخنق صدره، وصل دوره للقاء ضابط الجوازت وحين همّ بخطواته، سحبه أحدهم من الخلف ورماه بعيداً عن كوكبة من اللذين يلبسون نظارات سوداء، ولايقفون في الطوابير، يتوسطهم الرجل البدين، ثم أتى دوره وسلّم جوازه للضابط فسأله: اشعندك راجع؟ أنته مخبل؟ وبعدين ليش تريد تعلس جنطة الرجّال؟

استلم جوازه وهمّ إلى سكّة الحقائب القادمة، وقف بعيداً عن الرجل البدين وحمايته، لم يجد عربة، وكلما يهمّ بأخذ واحدة تذهب لغيره، طلب منه أحد العمال، عشرة آلاف أو ما يعادلها ليجلبها له، اعطاها وهمّ بالخروج، بعدما حشر حقائبه عليها، سقطت إحداها في المسير، سمع من خلفه صوتا انثويا يقول له: گبُر لفّك، هذا صدگ أثول. عند باب المطار التمّ عليه موظفوا النقل، طلبوا منه مائة دولار لتوصيله (فقط) إلى ساحة عباس بن فرناس، قبلَ دون تردد أو نقاش، وعند الساحة، رموا حقائبه بين الحصى والتراب، فهجمت عليه خيّالة التكسيّات، هذا يجرّه وذاك يسحب حقائبه، حتى استقر في إحداهن مقابل مائة دولار أخرى. الحرّ والتراب وضجيج السيارة ووجه السائق المكفهّر، ثم سيطرة توقفه في الطريق، سأل الجندي السائق: امنين جاي هالشفيّة اللّي يمّك؟ خل ينزل. نزل علاوي وقامت السيطرة بنبش محتويات حقائبه، بحثاً عن القنبلة المفقودة، وعلاوي مبتسم، ثم تركوه طالبين منه أن يعجّل باللّم، لأن موكباً حكومياً على وشك القدوم، قال له الجندي: ليش تريد تبوگ جنطة الرجّال؟ 

سكت علاوي وأجاب السائق بالنيابة: على أساس أُورپي .. پهَي پهَي

فاضل عباس

Ayoobeat@hotmail.com

إقرأ أيضا