صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

بنات تشرين: ارتقاء صادم يواجه التحريض

 

كان دخول الطالبات الجامعيات والشابات من ناشطات ومسعفات على خط التصدّي للحراك الاحتجاجي والمد الثوريّ من بغداد إلى البصرة (جنوباً)، منذ تشرين الأول 2019، مفاجئاً ليس فقط للذين يشنّعون على أيّ ملمح مدني في العراق، إنّما لأكثر المتفائلين بإمكانيات صعود جيل لا يريد أن يكون تابعاً لمنطق الأحزاب التي خرّبت العراق أو لبعض رجال الدين الذين صارت موالاتهم مَعْبراً لنيل المكاسب والوظائف والامتيازات.

هكذا انتقلنا من صورة مُتعارف عليها لنساء خلف أسوار الأعراف والتقاليد العشائريّة أو مكاتب الوظيفة حيث لا شيء سوى العطالة في الدوائر الرسميّة وانتظار يوم الراتب من دون فاعلية اجتماعيّة، إلى صور الفتيات اللاتي خرجن إلى الميادين ولديهن ما يعلنّ به عن أنفسهن، قولاً وفعلاً، وأكثر في تعبير جديد حملته لافتات رفعنها في محافظات البلاد.

في تفاصيل الصورة الجديدة، وجوه ولهجات تجمع وسط العراق وجنوبه، وطالبات بعضهن أطلّ بتسريحات شتّى للشعر برقت تحتها نظارات شمسيّة، وأخريات خرجن إلى الساحات بالعباءات الإسلاميّة، مثلما التقت في اليوميات التي شكّلت هذا المشهد من لديها توجّه فكريّ أو انتماء سياسيّ، ومن ليس في دوافعها الشخصيّة سوى الرغبة بالانخراط تحت لواء هذا اللافتة الكبيرة: “نريد وطناً”، فالوطن الحالي مبتلى ومحاصر بأيادي وإرادات التجهيل والخراب والفساد.

Image

 

 “بناتك يا وطن”

مع تصاعد الاحتجاجات وتحوّلها إلى اعتصامات في الساحات، ظهرت أنشودة يقول مطلعها: “هايه شبابك يا وطن هايه/ ضحت بدمها ورفعت الراية”، فعمدت حشود الفتيات المتظاهرات إلى استثمارها وجعلها بهذا المنطوق الجندري:”هايه بناتك يا وطن هايه”، ومن ثمّ صارت نصّاً لهاشتاك “#بناتك_يا_وطن”، ملأ صفحات تويتر عبر تغريدات الفاعلات في هذا الظهور الجديد.

هذا المنطوق سرعان ما شغل الساحات وجعل الكاميرات وعدسات الهواتف الجوّالة تلاحق الأفواه التي تهتف به، ومعه رفعت الأكف لافتات فيها براهين كثيرة على أنّنا أمام تفكير وانبثاق جديدين، كأنّ المرأة قدّمت نفسها هنا بوصفها صانعة الحدث وليست مُلحقة به أو سائرة في ركبه.

سريعاً، وفي كذا محافظة من بغداد إلى البصرة فالناصرية، قادت المتظاهرات الحراك ووجّهت من فيه، مع الإشارة إلى أنّ المفاجأة لم تقتصر على طبيعة الدور النسوي، وإنّما شكله وتنظيمه العفوي.

وأخذنا نقرأ في لافتاتهن ما يمثّل مواجهة علنيّة لزعامات معروفة، في فعل لم تُقدم عليه بنات الأجيال السابقة، ليكتب قسم منهن كلمة “حرّة” على أياديهن، واستعان بعضهن بأبيات من الشعر الشعبي غير معروف من كتبها: “وصوتچ أختي مو عورة/ زلم تتحامى بجهره/ وعلى جبل أحد صعدي/ ونادي بغيرتچ ثورة”.

وتصاعد هتاف:”خل يسمعون/ لا أمريكا ولا إيران/ ما نتراجع/ خل يسمعون”، ورفعت متظاهرة كربلائية هذا الشعار: “نحن العراقيّين أنانيون جدّاً في حبّ العراق”، بينما حملت زميلتها البغداديّة لافتة تقول: “سننتزع حريّتنا عاجلاً أم آجلاً”، وأخرى: “خلقنا لنحذف راء الحرب”.

 

جمال عراقي

واحدة من الأبعاد التي تمثّل اختراقاً للسياق المألوف في توصيف جمال النساء العراقيات، حينما كان قبل الثورة يأتي من باب إطراء الرجل وإشادته بها، ليكون بعد تشرين الأوّل 2019 عنواناً وحدثاً يفرض نفسه من خلال مئات الصور الفوتوغرافيّة التي التقطها مصوّرون شجعان للمسيرات الطلابيّة التي تصدّرتها البنت البغداديّة والنجفيّة والكربلائيّة والبصراويّة والميسانيّة والبابليّة  وبنات الناصرية والكوت والديوانية والسماوة.

هذا الواقع دفع البعض من المدوّنين أن يتلاطف في تعليقاته على الصور الجميلة للناشطات والطالبات: “نشكر التظاهرات التي أخرجت لنا هذا الجمال كلّه”.

 Image

Image

جيوش إلكترونية

كان لا بدّ أمام هذا الإشراق الاجتماعي الذي مثّلته المرأة في العراق، أن يجابه بحملات منظّمة من قبل جيوش الكترونية لأحزاب وجماعات هي في دائرة اتّهام الساحات بأنّها وراء ما جرى خلال 17 سنة مضت، لذا تمّت فبركة بعض الفيديوات عن وجود “بنات ليل” في الساحات أو زج بعض العاملات في الملاهي الليليّة وتصويرهن في فيديوات على أنّهن جزء من الحراك الشبابي. تبع ذلك محاولة بثّ الرعب باختطاف الناشطات، وإشاعة أنّ بعضهن يتعرّض للتحرّش في ساحة التحرير تحديداً، وهذا لم يكن صائباً أصلاً بل العكس هو الذي حصل حينما وجدت الشابة من يأخذ بيدها ويعطيها المجال لتكون في مقدمة الصفوف.

ثمّ استمرّ التشنيع على الناشطات وإثارة اتّهامات لا أخلاقيّة لهن، في محاولة لكسر قوّة الوجود الجديد للمرأة العراقيّة.

 

تسقيط في الإعلام

كان مؤسفاً الأداء الذي بدى عليه الإعلام الرسمي، المتجسّد بـ “شبكة الإعلام العراقي”، وبالأخصّ المتعلّق منه في تعامل قناة العراقية مع أحداث التظاهرات وتأخّرها عن التفاعل مع روح الحراك ونقل الصور الحقيقيّة عنه، إلا في حالات محدودة تعود لمبادرات زملاء مهنيّين يعملون في هذه القناة؛ دافعهم الوطني هو من حفّزهم على عمل تقارير ونقل أصداء ما يجري في الساحات.

في الإطار الآخر نشط الإعلام الحزبي ضدّ التظاهرات ككل، والتحقت فضائياته بحملات التسقيط والتشويه للناشطين، بدءاً من إطلاق اسم “الجوكر” على المحتج في إشارة إلى أنّه عميل ولديه ارتباط بسفارات، وإلى إلصاق كلّ تصرف فردي غير مقبول يحدث في الساحات بالمتظاهرين، ليكونوا مجرّد “عصابات جوكريّة” هدفها التخريب، في الوقت الذي رفضت الكثير من التنسيقيات أيّ تصرّفات تنحو إلى العنف والتجاوز على الممتلكات العامّة، بوجود رواية تقول أنّ بعض أنصار الأحزاب عمدوا إلى اختراق الساحات لارتكاب أفعال المُراد منها إضعاف التأييد الشعبي للاحتجاج ولمسار ما يريده الثائرون الحقيقيون.

وما أن تعالت أصوات البنات في الموج الطلابي الذي نظّم تظاهرات أسبوعيّة (كلّ أحد)، انبرت فضائية محليّة  بإعداد تقرير وبثّه عن “سماسرة الدعارة في الجامعات العراقيّة”، فُهمت الخطوة، غير تشويه سمعة الحرم الجامعي، على إنّها أيضاً محاولة لدفع العائلات إلى منع بناتهن من الحضور في التظاهرات أو الكتابة والتحشيد لها في مواقع التواصل، لأنّ “هذا الوسط موبوء وما خروج الطالبة من الحرم الجامعي نحو الساحة إلا تشجيع على المزيد من الانفلات”، في تفسير اعتمد قصدية بثّ هذا التقرير في ذلك التوقيت بالذات.

وإثر رفض الرأي العام، وجّهت “هيئة الإعلام والاتصالات”، المعنية بمتابعة خطاب الفضائيات ووسائل الإعلام العراقيّة، إنذاراً لهذه القناة ألزمتها فيه بـ “إزالة المادّة المخالفة للائحة قواعد البثّ الإعلامي وتقديم اعتذار لطلبة الجامعات العراقيّة عامّة”.

Image

 

مرحى لـ”تويتر” و”أنستغرام”

بعد أن أخفق الإعلام الرسمي والحزبي في إنصاف الحراك كلّه، ومنه “بنات الوطن” المتصدّرات للحشود، صارت منصة “تويتر” هي وسيلة الإعلام للباحثات عن واقع جديد للبلد بأكمله، فتوشّحت صفحاتهن بصور شهداء التظاهرات أو صور بانوراميّة لساحة التحرير وغيرها، في حين عرّفت أخريات أنفسهن بالتالي: “عراقية كلش”، “بنت تشرين”، “عراقيّة من بلاد الشجعان”، لتكون هذه المنصة احتفاء حرّاً بهذا الصعود الاجتماعي الجديد، لما وفّرته لبنات العراق من فرصة للتواجد وتقديم الذات من دون وصاية المنصات التقليديّة التي تقدّم المرأة في كليشيهات معتادة.

وأتاحت طبيعة النشر في “تويتر” سرعة التفاعل مع كلمات مختصرة وصور معبّرة تنال تفاعلاً أكبر مع ما فيها من جاذبية أنثويّة هي المتن وليست الهامش هذه المرّة.

وسار الأمر نفسه بالنسبة لـ “الأنستغرام” الذي ضجّ بصور الناشطات، لتكون اللقطات المنتشرة في الصفحات توثيقاً لمرحلة سترسم لنسوة العراق مكانة أخرى في محيطها المجتمعي.

كوفية الثائرات

 كوفيات حُمر وبيض اعتلت رؤوس هذه الحشود النسويّة، في تعزيز للطابع الثوري الذي أراد هؤلاء تبنّيه بخروجهن جنباً إلى جنب مع زملائهم من الشبان، ومن ثمّ تباهت أكثر من طالبة أو ناشطة بصورتها وهي ترتدي الكوفية وتقف في قلب ساحة التحرير (بغداد)، “الحبوبي” (الناصرية)، “ثورة العشرين” (النجف)، “أم البروم” (البصرة)، والحال نفسه امتدّ إلى بقية الساحات.

هكذا كانت الكوفية حاضرة مع الكمامة وقناني البيبسي لتلافي آثار الغاز المسيل للدموع، وتناسق ارتداؤها مع الثياب “الكاشوال” التي رأينا بها أغلب الفتيات، حيث “التيشرت” و”الجينز” هو أكثر ما يفضلنه في إطلالاتهن.

Image

 

أيقونات الثورة

عدا العشرات من الرسّامات والمسعفات اللاتي تعرّض بعضهن إلى الاختطاف، برزت عبر أكثر من ساحة، شخصيات نسويّة لهن دور فعلي في توجيه ودفع الحراك إلى الأمام، إذ تحقّق ذلك من خلال قراءتهن لأهازيج تتحدّى الأحزاب وتعرّي رموزها، وتلهب أيضاً حماس من هم حولها، ولنا في الصور والفيديوات التي شاعت لدى وصول الطلاب إلى ساحة التحرير، أمثلة كثيرة عن أصوات جديدة أرادت أن تقول: “أنا المرأة العراقيّة الجديدة، أنا هنا”.

ربّما تكون الطالبة “نهاوند تركي” (من الناصرية)، من أبرز الأصوات التي سطع اسمها،  إذ كانت تلقي أبياتاً من الشعر الشعبي محفوظة في هاتفها الجوّال نُظّمت خصيصاً لدعم الثورة الشبابيّة، فاستهدفتها محاولة اغتيال نجت منها، وعادت بعدها لتواصل نشاطها بين زميلاتها وزملائها.

ومن بين المقاطع التي ردّدتها نهاوند: “خل تسمع كلّ الحزبية/ ذوله إحنه الجيل الصامد.. لا أتباع ولا لوگية/ / ذوله إحنه الجيل الصامد.. صوتياتك ما هزّتنا/ ذوله إحنه الجيل الصامد”.

مشهد إحاطتها برفاقها من الطلاب، وحده كافٍ لأن نقول إنّنا أمام بداية جديدة حينما يتقبّل الذكور أن تقودهم أنثى تهتف فيهم ويلتفّون حولها.

ها هي نهاوند الناصرية (محافظة ذي قار)، أنموذج مشعّ ينبئ، بدلالات متعدّدة؛ صدارة المرأة للجموع، استفزازها لسلطات اجتماعيّة وحتّى أصوليات دينيّة لا ترحّب بأن تكون هي في واجهة الأحداث، ومن ثمّ معاندة المثال القريب للمرأة التي تفهم الحريّة على إنّها صور مثيرة في الأنستغرام، من دون وعي وإسهام في المجال العام.

تضامن لا محدود

خلف هذه الصورة الباعثة على التفاؤل، كثير من التأييد والاندهاش لمغتربات ومغتربين من عراقيّي الخارج، ممن ابتهجوا بقوّة تاء التأنيث في سطور كتاب العراق الحالي. مقيمة من السويد يأخذها تضامنها إلى عمل “Share” يومي من صفحة “لبوات العراق” على الفيسبوك، وكاتبة مثل إنعام كجه جي تعلن من محل إقامتها البعيد في باريس، أنّها أمام “لحظة فذّة من العمر”، لما رأته من بنات جنسها، مختصرة ذلك في مقال “مارك في ساحة التحرير”، مهم أن نطالع منه هذا الجزء: “نزل الشباب إلى التظاهر، وفتحوا صدورهم للموت. قيل للشابات إنّ عليهن المكوث في البيوت، ورفع رايات التضامن فوق الأسطح. على أيّ عراقية تلقي مزاميرك؟ نزلن بالآلاف إلى ساحة التحرير يحملن لافتات مخطوطة بأقلام الكحل. يغطين نصف الوجه بكمامة تقي من الغاز، فيزداد التماع العيون بين الرصافة والجسر..”.

أشكال مختلفة من التضامن في مواقع التواصل وفي نقاشات العائلات العراقيّة التي أنصفت ما قام به شباب الثورة، نبض واحد كان يسري من الساحات إلى عواصم ومدن العالم التي يقيم فيها العراقيون.

إنعام وغيرها من أمثال السيّدة العراقيّة- السويديّة، لم يكن في أبعد توقعاتهن، حتّى لما يعقب عشر سنوات مقبلة، أن يخرج جيل عنيد يعرف ماذا يريد، أسّست فيه نهاوند ومعها الآلاف من العراقيات بداية حلم بعراق آخر طال انتظاره.

* شكرٌ خاصّ لكلّ من المصوّرين علي دبدب وسيف كريم؛ لتوظيف بعض صورهما في متن المادّة.

إقرأ أيضا