في الساعة العاشرة و45 دقيقة من ليلة الثلاثاء 26 أيلول سبتمبر2023، كان المئات من المدعوين في قاعة “الهيثم” للأعراس، ببلدة قره قوش التابعة لقضاء الحمدانية شرقي محافظة نينوى، يتابعون العروسين الشابين، ريفان وحنين، وهما يؤديان رقصة هادئة على أنغام أغنية كانا قد اختاراها سوية، حين اندلعت النيران فجأت في السقف فوقهما، المصنوع من “السندويج بنل”، لتلتهمه سريعا وتتساقط الحمم على الحضور كالمطر، بينما تشكلت غمامة كبيرة من الدخان حجبت الرؤية.
“كأن بركاناً انفجر في المكان” يقول أحد الناجين ويدعى جوني (45 سنة)، فقد شقيقه وابنته في الحادث، ويضيف: “خلال لحظات تحولت الأغاني والضحكات الى بكاء وصرخات”. شلت الصدمة نحو 900 شخص كانوا يحتفلون داخل القاعة، ومع امتداد النيران سريعا ساد الرعب وتحرك المحتشدون بشكل عشوائي بحثا عن أي مخرج محاولين النجاة بأرواحهم، وبينما تصاعدت النيران وباتت تحاصر عشرات العوائل تم فصل الكهرباء، فتدافع الجميع نحو المنفذ الوحيد المتاح لتعم الفوضى وتتراكم الجثث فوق بعضها.
ينظر بعينين باكيتين إلى صورة يحملها بإطار خشبي لابنته الشابة المتوفية حرقاً ويضيف:”لو لم يطفئوا الكهرباء، لما سقط الكثير من الضحايا”.
التحقيق هذا، يؤكد من خلال وثائق رسمية، أن مؤسسات حكومية كانت قد منحت مالك القاعة موافقاتها ورخصا صحية وممارسة المهنة على الرغم من أنه شيدها على أرض زراعية خلافاً للقانون الذي يمنع ذلك، كما أن مديرية الدفاع المدنية وإدارة قضاء الحمدانية أهملت امر متابعة التزامه بشروط الأمن والسلامة.
بلغت حصيلة القتلى جراء الحادث 123 شخصاً بينهم نساء وأطفال مع إصابة 250 آخرين بجراح. العروسان كانا من بين الناجين، لكنهما فقدا الكثير من أقربائهما. فيما اعتقلت قوات الأمن الكردية صاحب القاعة سمير سليمان كرومي، في مدينة أربيل التي كان قد فر اليها بعد الحادث خشية أن تطاله أعمال انتقامية، كما أعتقل تسعة عاملين في القاعة، وفتحت الحكومة تحقيقات عاجلة واعلنت الحداد ثلاثة أيام حزناً على الضحايا.
رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، زار البلدة في اليوم التالي، وأقر بوجود تقصير وإهمال تسببا بحادثة الحريق، دون تحديد الجهة المقصرة.
بينما ذكر وزير الداخلية عبد الأمير الشمري، خلال مؤتمر صحفي عقده ببغداد في الأول من تشرين الأول/اكتوبر2023 بان الطاقة الاستيعابية للقاعة هي 400 شخص، في حين كان عدد الموجودين لحظة الحادث نحو 900 شخص في إشارة إلى مخالفة تتعلق بالطاقة الاستيعابية.
وقال بأن صاحب القاعة كان قد أخذ معه تسجيلات كاميرات المراقبة المثبتة داخل القاعة لأنها “كانت تدينه “وتم استردادها منه”. وعرض على شاشة كبيرة مقطع فديو للحظة اندلاع الحريق. وتابع الشمري، بأن ألعاباً نارية تطلق شرارات من الأرض حول العروسين، كانت السبب في احتراق مواد زينة كانت معلقة بالسقف المشيد بالسندويج بنل(ألواح معدنية او بلاستيكية محشوة بمواد عازلة).
وحدد رئيس اللجنة التحقيقة في الحادث، اللواء سعد فالح كسار الدليمي، خلال المؤتمر ذاته، عشرة أسباب لاندلاع الحريق هي: “تسقيف القاعة بمادة السندويچ بنل، تزيين السقف بمادة القش البلاستيكي، تغليف واجهة القاعة بمادة الكوبوند، وجود غرفة داخل القاعة مليئة بقماش الستن، جدران القاعة مغلفة بستائر قماش، أرضية القاعة بالكامل من السجاد الكاربت، كراسي القاعة من البلاستيك والقماش، وجود كميات كبيرة من الكحول في القاعة، عدم وجود أبواب طوارئ، وجود أربعة أجهزة شعالات نارية في القاعة”.
وفي ذات المؤتمر حمل اللواء كاظم بوهان، مستشار وزير الداخلية، مالك القاعة مسؤولية نشوب الحريق لاستخدامه الألعاب النارية التي أحدثت الحريق الذي عده عرضيا بسبب عدم اتخاذ إجراءات السلامة، أي لم يكن متعمداً أو بفعل فاعل كما روجت بعض الصفحات في مواقع التواصل الاجتماعي.
وتلا الوزير توصيات لجنة التحقيق، التي تضمنت عد ضحايا حادثة الحمدانية شهداء، ليتمكن ذووهم من الحصول على تعويضات مالية، وإعفاء مدير بلدية قضاء الحمدانية، ومدير شعبة التصنيف السياحي في نينوى، ومدير مركز صيانة قضاء الحمدانية، ومدير قسم الإطفاء في نينوى ومدير الدفاع المدني من مناصبهم.
يأتي هذا الحادث بعد أربع سنوات فقط، من حادث غرق “عبارة سياحية” في نهر دجلة كانت تقل أكثر من 200 شخص، توفي بإثرها 141 منهم، غالبيتهم من النساء والأطفال، بسبب الحمولة الزائدة التي أدت الى قطع أحد أسلاكها الفولاذية، وفقاً لجهات تحقيقية رسمية.
حادث حريق قاعة العرس، فتح باب النقاش مجدداً في نينوى والعراق بشأن إجراءات السلامة التي يفترض اتخاذها في المرافق العامة، ووجهت الكثير من الاتهامات إلى المؤسسات الحكومية المعنية، لمنحها رخصاً وإجازات ممارسة مهن لأشخاص نافذين دون فرض شروط السلامة، والتغاضي عن ذلك مقابل رشاوى يدفعها أصحاب تلك المرافق.
تجاوزات بالجملة وموافقات رسمية
من خلال تواصل معد التحقيق مع مجموعة من المصادر في مدينة قره قوش (بغديدا كما تلفظ بالسريانية) وهي مركز قضاء الحمدانية، شيدت قاعة الهيثم في العام 2018 على قطعة الأرض المرقمة 45 مقاطعة 151 زاويته والبالغة مساحتها دونمان و200 متر مربع، وتعود ملكيتها إلى (ميلاد عصام متي)، وهي ارض زراعية لا يسمح القانون العراقي ببناء عقارات مماثلة عليها.
وحصل معد التحقيق على معلومات تفيد بأن مستغل هذه الأرض، مالك القاعة، سمير سليمان كرومي، هو من أهالي البصرة في الأصل، شيد سلسلة من المشاريع في المنطقة منذ سنة 2018 من بينها مطعم ومدينة ألعاب.
ويقع مشروع القاعة ضمن مسار أعمدة الضغط العالي للكهرباء، والقاعة مسجلة كبناء متجاوز على أملاك الدولة بموجب كتاب لبلدية الحمدانية صدر في أواخر سنة 2022 أكدت فيه مفاتحتها لقائمقامية قضاء الحمدانية بموجب كتابها المرقم 1191 في 25 تموز يوليو 2019، لاتخاذ الإجراءات القانونية بحق سمير سليمان، وإزالة ما أحدثه من تجاوز.
مصدر في مديرية الدفاع المدني، طلب عدم الإشارة إلى أسمه لحساسية الموضوع، ذكر بأن صاحب القاعة لم يكن قد استحصل موافقة دائرته، وأنها كانت قد أخذت منه تعهد موقع بإزالة سقف القاعة قبل وقوع الحادث بعدة أشهر، لكنه مع ذلك استمر بتأجير القاعة لحفلات الزفاف وبمبالغ تتراوح بين 1000 إلى 2000 دولار في كل مرة. ما يعادل مليون وخمسمئة ألف دينار إلى ثلاثة ملايين دينار.
وذكر المصدر بأن الحريق اندلع لدى اشعال الألعاب النارية، التي لامست شراراتها شرائح بلاستيكية (قش بلاستيكي) كانت معلقة كديكور في السقف بنحو دائري فوق حلبة الرقص التي كان فيها العروسان يؤديان رقصتهما لحظتها.
ووفق التحقيقات، فان النيران انتشرت بسرعة خاطفة على طول سقف المبنى، لأنه كان مصنوعا من “مواد واطئة الكلفة وسريعة الاشتعال (الساندويج پنل، والكوبوند الذي تنبعث منه غازات سامة عند الاحتراق) مع وجود الكثير من الأقمشة والمواد الكحولية والبلاستك في المكان”، ولعدم وجود أبواب طوارئ مفتوحة، لم يستطع الكثير من الحاضرين النجاة، فهم إما تعرضوا للحرق المباشر أو الاختناق جراء الدخان.
حوادث سابقة وتطابق في الأسباب
أسباب حريق قاعة الهيثم، وفقاً لمصدر في الدفاع المدني بنينوى، تشبه وبنحو متطابق الأسباب التي أدت إلى حادثتي مستشفى ابن الخطيب في بغداد يوم24 نيسان أبريل 2021، إذ أدى حريقٌ اندلع هناك إلى وفاة 82 شخصاً وإصابة 110 آخرين بجراح، وحريق آخر في مستشفى الحسين للعزل الصحي بمدينة الناصرية في محافظة ذي قار في 12/7/2021، وادى إلى وفاة 92 شخصاً، وإصابة 110 بجراح.
في الحوادث الثلاث، كان السبب الرئيس هو استخدام “الساندويج بنل” في البناء، وقلة أو انعدام وسائل السلامة، وهي جزء من عشرات الحرائق المسجلة سنويا، التي تكشف عن إهمال حكومي لتطبيق اجراءات السلامة وفي جميع انحاء العراق، مع عدم معالجة “المسببات الرئيسية” وغياب المحاسبة الفاعلة، فالقرارات التي تصدرها الجهات المعنية بعد كل حادثة “انفعالية ومتوافقة مع ردة فعل الرأي العام، لتختفي المعالجات بعد ذلك، وتعود الأمور كما كانت دون تغيير” وفقاً لناشطين في مجال السلامة البيئية.
حصول تلك الحوادث الكبرى الى جانب عشرات الحوادث الصغيرة، يثير السؤال بشأن كيفية انجاز تلك المنشآت بمواد بناء تخالف متطلبات السلامة المهنية، وكيفية الحصول على الموافقات الرسمية للعمل من الجهات المعنية بما فيه الدفاع المدني.
بخصوص قاعة الهيثم، تؤكد كل المصادر الحكومية التي تم التواصل معها، بأن القاعة بنيت وكانت تعمل خلافا للمتطلبات وشروط السلامة المطلوبة “القاعة كانت تعمل دون موافقة الدفاع المدني”، وهو ما كرره معاون مدير الدفاع المدني، اللواء حسن الخزرجي، في تصريحات لوسائل الإعلام إثر الحادث، أن بناء القاعة “لم يعرض على الدفاع المدني عند إنشائه، وبعد كشف أجرته فرق الدفاع المدني في المنطقة بتاريخ 17 نيسان أبريل 2023، حددت القاعة بأنها مخالفة للتعليمات، وطُلب من صاحبها إزالة – السندويش بنل- من سقف القاعة”.
لكن هذه التأكيدات تخالف ما يقوله مقربون من سمير سليمان كرومي، صاحب القاعة، الذين قدموا مجموعة من الوثائق تؤكد حصول البناء على العديد من الموافقات الرسمية، ومن بينها موافقة الدفاع المدني، بل وتسديدها رسوم الجباية الخاصة بالقاعة بانتظام.
آخرها وصل الجباية المرقم 41267 في 17/4/2023 الصادر من مركز دفاع مدني الحمدانية، التابع لمديرية الدفاع المدني في محافظة نينوى، والذي يؤكد سداده مبلغ 25 ألف دينار، (نحو 19 دولار)، ويظهر على وصل الجباية توقيع ضابط مركز الدفاع المدني العقيد عبد السلام عبد القادر.
وهذا يعني وبنحو مؤكد، أن الدفاع المدني، كانت تعرف بأمر القاعة، وأنها مفتوحة أمام العامة على الرغم من إنشائها بمواد لا تتطابق مع المواصفات المطلوبة قانوناً، وافتقار المكان الى شروط سلامة وفي أقل تقدير إلى مخارج طوارئ، وإلا فكيف تجبي من صاحبها رسوماً ؟.
وما يشير أيضاً إلى تورط الدفاع المدني، بحادث حريق قاعة الحمدانية هو قرار وزير الداخلية عبد الأمير الشمري، بفتح تحقيق مع مدير الدفاع المدني في نينوى “لعدم قيامه بواجباته واكتفائه بالإنذارات والقضايا الروتينية” وفقاً لما ذكره الوزير.
ومن بين الوثائق الأخرى التي تؤكد حصول مالك قاعة الهيثم، على الموافقات الرسمية قبل الحادث، بطاقة الفحص الصحي، الصادرة في 11 أيار مايو 2023، لعمال المحلات العامة بالرقم 397 وعليها صورته الشخصية، بعد تسديده الرسوم بموجب الوصل المرقم 814155 في 7 أيار مايو 2023.
فضلا عن إجازة صحية لممارسة المهنة، تحمل الرقم 157 صادرة عن دائرة صحة نينوى/ شعبة الرقابة الصحية في الحمدانية، كانت قد منحت اليه سنة 2018، وتم تجديدها في 11/5/2023. وبراءة ذمة من الهيئة العامة للضرائب بالرقم 326 صادرة في 22/2/2023 منحت اليه كجزء من متطلبات الحصول على إجازة ممارسة المهنة لإدارة قاعة أبن الهيثم، ذي التصنيف السياحي.
وكتاب قبول اسم تجاري صادر عن غرفة تجارة الموصل بالرقم 601/3576، بتأريخ 27/10/2022، تضمن الإشارة إلى أسم مالك القاعة، ووصفها قاعة للمناسبات، وأن لديه سجلاً تجارياً يحمل الرقم 59421.
ووصل قبض صادر عن التفتيش والمتابعة في هيئة السياحة، يحمل الرقم 4741، في 22/2/2023، يشير الى تسديده مبلغ 776 ألف دينار عن تصنيف إجازة ممارسة المهنة الصادرة في 2023، لقاعة الهيثم للأعراس والمناسبات، بدرجة سياحية أولى، ومبلغ 477 ألف دينار، عن منحه إجازة ممارسة مهنة. ليصبح المجموع مليونا و253 ألف دينار (945 دولاراً).
وبعد تعمقنا في البحث، اكتشفنا بان الدائرة التي اعترضت في الأصل على تشييد قاعة الهيثم، لم تكن مديرية الدفاع المدني، بل مديرية زراعة نينوى، لكون الأرض التي طُلب إحداث المشيدات عليها (قاعة الهيثم حاليا)، هي أرض زراعية، رقمها 45 مقاطعة 151 زاويته.
فبموجب كتاب قسم الأراضي/ الاستيلاء، التابع لمديرية زراعة نينوى، المرقم 1774 في 17/10/2021، والموجه إلى ملاحظية التسجيل العقاري في الحمدانية، تم التأكيد، بأن طلباً مماثلاً تم رفضه قبل أكثر من عشر سنوات، لأن البناء في الأراضي الزراعية يتطلب موافقات خاصة.
ويشير ذات الكتاب، إلى عدم مقدرة دائرة الزراعة تسليم التسجيل العقاري لمحضر كشف قطعة الأرض والأوليات المتعلقة بها، ومنها رفض إقامة المشيدات عليها، بسبب فقدانها خلال سيطرة تنظيم داعش على الموصل بين 2014 و2017.
وحصلنا أيضاً على محضر كشف من زراعة الحمدانية على الأرض، مؤرخ في 21/10/2021 يبين أن عقارا مشيدا فيها، عبارة عن قاعة للمناسبات بأبعاد 45 مترx28 متر، مبني بمادة(البلوك)ومسقفة بمادة السندويج بنل، تحتوي على غرفتين للإدارة ومخزن ومشتملات صحية ومطبخ. فضلاً عن تفاصيل أخرى لكن دون الإشارة هذه المرة إلى اعتبار أن المشيدات على الأرض الزراعية غير قانونية!.
سندويج بنل!
ولكون مادة (السندويج بنل) المستخدمة في تغليف قاعة الهيثم وسقفها، كانت عرضة لانتقادات المختصين كونها غير آمنة، قدم سمير سليمان كرومي، تعهداً لدى الشعبة القانونية في مديرة الدفاع المدني بنينوى، قال فيه بأنه أخضع مادة السندويج بنل التي استخدمها في بناء القاعة للفحص لدى شركة (الوطني للفحص الهندسي والتصاميم الهندسية المحدودة) وحصل منها على شهادة فحص، وذكر بأنه يتعهد باستخدام ذات المادة المفحوصة في البناء، ويتحمل كافة التبعات القانونية بعكس ذلك.
ومن الملاحظ على هذا التعهد أنه موقع في 9/7/2023، ويحمل أيضاً توقيع المشاور القانوني يونس حمدي محمد، مدير الشعبة القانونية في مديرة الدفاع المدني بنينوى، مع أن قاعة أبن الهيثم، تم افتتاحها سنة 2018، أي قد مضى على بنائها أكثر من خمس سنوات.
أي أن الدفاع المدني في نينوى، وبدلاً من أن تمنع استخدام المكان بوصفه غير آمن، وعرضة للحرائق، تخلصت من المسؤولية، بتحميلها للمالك سمير سليمان كرومي، من خلال التعهد الذي قدمه إليها.
وبالرجوع إلى مادة السندويج بنل، التي كانت سبباً رئيسيا في استفحال الحريق وشدته وبالتالي سقوط كل ذلك العدد من الضحايا في الحادث، حصلنا على وثائق تفيد بأن مالك القاعة كان بالفعل قد أخضع السندويج بنل لفحص لدى شركة الوطني.
وقد منحته استمارة التقرير النهائي للفحص، بالعدد 10942 في 13/6/2023، الموجه إلى شعبة الوقاية والسلامة الصناعية في قسم الإطفاء والسلامة بمديرية الدفاع المدني في نينوى، والذي تضمن الإشارة إلى ان مادة السندويج بنل المستخدمة في تسقيف قاعة الهيثم، خضعت للفحص الحراري بدءاً من درجة 325سيلزية، ولغاية 700 درجة، وخلال مدة زمنية وصلت الى 60 دقيقة.
وبحسب المهندس المدني فائز يعقوب دريد، فإن مجرد شرارات الألعاب النارية لن تكون سببا في احتراق السندويج بنل. ويستدرك:” إذا كان فعلاً هو ذاته المفحوص والمثبتة صفاته في تقرير جهة الفحص، لكن ومن خلال مشاهدتنا لمقاطع الفديو التي أظهرت طريقة وسرعة نشوب الحريق في سقف القاعة، فأستطيع أن أؤكد، بأن صاحب المكان، لم يستخدم ذات السندويج بنل، بل نوعية أخرى سريعة الاشتعال”.
بحسب معاون مدير الدفاع المدني، اللواء حسن الخزرجي، تم تسجيل 16 ألف حادثة حريق في عموم البلاد خلال الأشهر الثمان الأولى من 2003، وفي سنة 2022 تم تسجيل 22 ألف حادث.
وقال بأن دائرته تحيل المشاريع الخاصة المخالفة لإجراءات السلامة إلى محكمة الدفاع المدني، وتتم محاكمتهم وفقاً للمادتين 20 و 21 ، وقد تم إحالة 7000 مشروع مخالف خلال السنتين الأخيرتين لهذه المحكمة، وتم تغريم 4 آلاف من أصحابها.
وتنص المادة 20 من قانون الدفاع المدني رقم 44 لسنة 2013، على معاقبة المخالفين للقانون والتعليمات الصادرة بموجبه، بالحبس مدة لا تزيد عن سنة واحدة أو بغرامة لا تقل عن 250 ألف دينار (189 دولار) ولا تزيد عن مليون دينار (755 دولار).
وتنص المادة 21 من ذات القانون على معاقبة المخالفين لأحكام البند رابعا، من المادة الخامسة (تنفيذ خطط الدفاع المدني عند اعلان حالة الطوارئ او حدوث الكوارث) بالحبس مدة لاتقل عن ست أشهر ولاتزيد عن ثلاث سنوات، أو بغرامة لا تقل عن خمسة ملايين دينار (3775 دولار) ولا تزيد عن 15 مليون دينار (11320 دولار) .
ويذكر المحامي أحمد العبيدي، بأن القانون المدني، عالج المسؤولية التقصيرية، لكن ولأنه شرع في 1959، فكان لابد من قوانين جديدة، “وهكذا صدر على سبيل المثال قانون الدفاع المدني سنة 2013” ويعيب على هذا القانون افتقاره لعنصر الردع المناسب، إذ أنه يفرض واحدة من العقوبتين، إما الحبس أو الغرامة.
ثم يتساءل: “ما قيمة غرامة أقصاها 15 مليون دينار أو الحبس ستة أشهر مقابل سقوط مئات الضحايا؟” وأشار إلى أن تدني سقوف العقوبات في القوانين المتعلقة بالسلامة، هو السبب في تهاون أصحاب الأبنية ذات الاستخدام العام وحتى الخاص، بالتقيد في الإجراءات التي ينبغي عليهم توخيها في سبيل منع الحوادث.
وفسر حصول أصحاب الأبنية والمشيدات كالقاعات والمخازن ومدن الملاهي والعمارات التجارية على الموافقات الرسمية حتى دون تقيدهم بالشروط التي تتطلبها الدوائر المانحة، بانتشار الفساد في الدوائر والمؤسسات الحكومية، وعائدية غالبية المشاريع لمسؤولين في الاحزاب النافذة بالدولة.
ويوضح: “أي معاملة رسمية في غالبية المؤسسات الحكومية، تتطلب دفع رشاوى للموظفين، من لا يدفع، لايحصل على الموافقة، ومن يدفع، يتم استثناؤه في الغالب من الكشوفات، ويتم التساهل معه الى أبعد الحدود”.
ويقول بعد تفكير: “أنا واثق من أن مالك قاعة الهيثم للأعراس فعل ذلك، وحصل على جميع الموافقات من خلال دفع مبالغ للموظفين، وإلا فكيف عمل مع كل تلك المخالفات والفجوات في متطلبات السلامة؟”.
توصيات تؤكد التجاوزات
بعد يوم من الحادث، أعلنت وزارة الهجرة والمهجرين في العراق عن تخصيص مبالغ نقدية للضحايا بواقع 10 مليون دينار (7550 دولار) لذوي المتوفين، وخمسة ملايين دينار (3775 دولار) للمصابين، وإرسال عدد منهم إلى تركيا لتلقي العلاج.
وهذا يشبه قراراً مماثلا اتخذته الحكومة العراقية في آذار مارس 2019، عندما غرقت العبارة في مدينة الموصل، ومازال العديد من ذوي الضحايا بانتظار استلام مبالغ التعويض التي وعدوا بها ولم تصلهم، وفقاً لأعضاء في مجلس النواب.
وصوت مجلس النواب العراقي في 30 أيلول سبتمبر 2023 على قرار أوصى فيه الحكومة بتعويض المصابين وذوي الضحايا ماديا ومعنويا، واتخاذ ما يلزم لعلاج المصابين داخل العراق وخارجه
وأن تتولى تخصيص المبالغ المالية اللازمة لتلبية متطلبات ما تضمنته الفقرات أولا وثانيا من موازنة الطوارئ أو من موازنة وزارة الصحة.
كما اوصى مجلس النواب في قراره مجلس الوزراء لإعادة إرسال مشاريع القوانين التي نصت على تعويض ضحايا مثل هكذا حوادث، وتضمين هذه المشاريع ضحايا فاجعة الحمدانية بالإضافة إلى الكوارث الأخرى التي حدثت خلال الفترة السابقة.
ودعوة الحكومة لإتخاذ ما يلزم لمنع وقوع مثل هكذا حوادث مستقبلا، وعدم منح الموافقات بإنشاء قاعات للاجتماعات والمناسبات إلا بعد التثبت من استيفاء هذه الأماكن لمتطلبات السلامة.
الى جانب توصية لمجلس القضاء الأعلى لتشكيل لجنة قضائية للوقوف على ملابسات الحادث ومحاسبة المقصرين بالتعاون مع الأجهزة الرقابية والأجهزة الأمنية. وتشكيل لجنة مشتركة تضم أعضاء من لجان الأمن والدفاع والصحة والبيئة والشهداء والضحايا والمفصولين السياسيين النيابية، لتعرض توصياتها على مجلس النواب بخصوص الحادث.
كل تلك التوصيات بما فيه ما يتعلق بشروط السلامة وبالتعويضات تؤكد ان الجهات المعنية المختلفة لا تقوم بواجبها وان هناك شباكات فساد تمنع من تطبيق القوانين والقرارات حتى المرتبطة بتعويض الضحايا.
ليس ذلك فحسب يقول الكاتب والباحث غازي حكيم أن:” قيام الحكومة بمنح التعويضات من المال العام في كل مرة وبعد كل كارثة يتسبب بها اشخاص، أمر يثير الاستغراب، انه بمثابة رشوة او ثمن يتم تكرار دفعه لتسويف القضية واسكات ذوي الضحايا والمجتمع عموما عن فتح تحقيقات تظهر كيف تتم كل عمليات التجاوز على القوانين تلك ومن يقف خلفها”.
إغلاقات ما بعد الكارثة
وفي نينوى، وجه مدير بلدية الموصل، عبد الستار الحبو، كتابا يحمل الرقم 27206 في 27/9/2023 الى قائمقامية قضاء الموصل، طلبت فيه بغلق القاعات والمطاعم والكافيتريا والكازينوهات والمراكز التجارية والفنادق التي لاتمتلك متطلبات السلامة المهنية والمشيدة بدون موافقات رسمية.
وامر وزير الصحة صالح الحسناوي، بإغلاق مستشفى الخنساء (الكرفاني) المؤقت للنساء والتوليد في مدينة الموصل، ولم يصدر أمر مماثل بخصوص مستشفى الجمهوري في الجانب الأيمن للموصل، الذي هو أيضاً (كرفاني) ولا تتوافر فيه شروط السلامة.
وميدانياً، ذكر مدير اعلام الدفاع المدني في نينوى العقيد سعد الجبوري، أن فرق تابعة للدفاع المدني أجرت كشوفات ميدانية أولية على جميع المطاعم وقاعات المناسبات والمقاهي المشيدة بمادة السندويج بنل، وقال بأن غير المطابقة منها للمواصفات سيتم استبدالها بالصفيح او ما يعرف محلياً بـ(الجينكو)، وذكر بان الكشوفات تلك ستتكرر بغية الزام أصحاب تلك المرافق بشروط الأمان، على ان تغلق المرافق غير المتلزمة.
وللتأكد من مطابقة السندويج بنل المستخدم للمواصفات المطلوبة، ذكر الجبوري، بان الدفاع المدني سيرسل عينات منها، لفحصها في مختبرات معتمدة بجامعة الموصل والجامعة التقنية الشمالية، وان الفحص هذا سيطبق على كل من يقدم على إجازة بناء في نينوى مستقبلا.
يذكر تجار مادة السندويج بنل في الموصل، أن هنالك نوعيات عديد للمادة في السوق، أفضلها او كما يصفونها بالآمنة والجيدة تتحمل حرارة تصل إلى 3000 درجة مئوية، لأنها مغلفة بمادة معدنية، ويطلقون على هذا النوع بـ(الحراري)ويبلغ سعر المتر المربع منه 16 دولاراً (21200 دينار) بينما هناك أنواع أخرى أقل جودة تباع بأسعار تتفاوت بين 5 إلى 9 دولارات، للمتر المربع الواحد.
فساد وإهمال
يصف واثق محي الدين، وهو موظف بلدي متقاعد، طلب بلدية الموصل من قائمقامية القضاء، بإغلاق المرافق غير الملتزمة بإجراءات السلامة، بأنه “دليل لا يقبل الشك”، على تقاعس المؤسسات الحكومية في القيام بواجباتها لحماية المواطنين من الحوادث.
ويقول: “إذا لم يكن حادث العرس قد وقع أو تسبب الحادث فقط بوفاة شخص أو اثنين، كانت بلدية الموصل والقائممقامية ستلتزمان الصمت إزاء عشرات الأبنية المشيدة بدون إجراءات سلامة، وبعضها كالمراكز التجارية والفنادق والمطاعم، يدخلها المئات والآلاف كل يوم”.
وشكك بجدية الإجراءات المعلن عن اتخاذها، بقوله “فعلوا ذلك أيضاً بعد فاجعة غرق العبارة في نهر دجلة، ووعدوا بأنهم سيراقبون المشاريع كلها، ويلزمون أصحابها بحماية الناس، ولكن ماذا حدث؟ لا شيء، وأيضاً هذه المرة، سيظهر المسؤولون في الإعلام بضعة أيام، ثم يهمل الأمر تماماً مثلما حدث مع عشرات من الحوادث الأخرى سابقا”.
وبالتوافق مع ما ذكره الموظف البلدي المتقاعد، فأن الإجراءات التي اتخذت عقب حادثة العبارة، كانت اقالة المحافظ وملاحقته قضائيا بتهم فساد، وصدرت ضده مجموعة من الاحكام تصل إلى 20 سنة سجن. فضلاً عن احكام صدرت ضد موظفين حكوميين آخرين في التسجيل العقاري والبلدية وديوان المحافظة، عن قضايا فساد كذلك.
لكن كل تلك الأحكام لم يكن لها علاقة بغرق العبارة ومقتل العشرات بسبب اهمال متطلبات السلامة، بل كانت ردة فعل وصفها البعض بالسياسية، بسبب تحول القضية إلى رأي عام، وكان لابد من سقوط مسؤولين كبار.
أما الإجراءات المتعلقة بالعبارة ذاتها، فكانت مشابهة نوعا ما لما اتخذ بخصوص حادثة قاعة العرس في قره قوش، وأيضاً قالت الجهات التحقيقية في حينها، أن العبارة التي تتسع فقط لـ50 شخصا، كانت تقل لحظة غرقها 287 شخصا، أي تم تحميلها بأكثر من قدرتها الاستيعابية.
وألقي القبض على عبيد إبراهيم علي الحديدي، صاحب الجزيرة السياحية المسؤولة عن العبارة، وتسعة من العاملين ضمن إدارته، لكن الحديدي قام بإجراء تسوية، قدم بموجبها مبلغ 10 مليون دينار لذوي كل ضحية، مع قطعة ارض سكنية عبر جمعية ادوية نينوى الإسكانية، ويبدو أن ذلك قد ساعد في تخفيف حكم كان قد صدر بحقه سنة 2019 بالسجن لستة سنوات، إذ خرج ليرشح نفسه في الانتخابات البرلمانية التي جرت في أواخر 2021 عن الدائرة السابعة في نينوى، دون أن يتمكن من جمع أصوات كافية توصله لمجلس النواب!.
يعلق على ذلك، عادل مجيد، وهو حقوقي متقاعد بقوله:”خروج المتسبب بكارثة العبارة بعد سنتين من الحكم عليه بالسجن، ولاحقا ترشحه ليمثل أهالي نينوى في مجلس النواب، وبضمنهم طبعا ذوي ضحاياه، يظهر بنحو جلي الطريقة التي تسير بها البلاد، القانون على الورق فقط، وتطبيقاته الحرفية تتم على غير المسنودين من جهة سياسية ما”.
ويستدرك”الكثيرون في الموصل، يتحدثون عن علاقة عبيد إبراهيم بعصائب أهل الحق، وأن مكتبها الاقتصادي شريك معه في استثمار الجزيرة السياحية في دجلة، حيث غرقت العبارة”
وبالنسبة للإجراءات التي اتخذت بخصوص الحوادث الكبرى في مناطق أخرى داخل العراق، كحريق مستشفى أبن الخطيب في بغداد سنة 2021، فقد اقتصرت على قبول استقالة وزير الصحة حسن التميمي، واعفاء كل من مديري صحة بغداد والمستشفى سلمان حامد علي، ومعاونه الإداري ومسؤول الدفاع المدني من مناصبهم. في حين تمت إحالة 13 موظفاً في مستشفى الحسين للعزل الصحي بمدينة الناصرية في محافظة ذي قار، أثر حريق نشب هناك في تموز يوليو 2021.
عضو مجلس النواب عن محافظة نينوى، ورئيس لجنة الصحة النيابية، الدكتور ماجد شنكالي، وصف الحكومات العراقية المتعاقبة بعد 2003 بأنها “حكومات ردود أفعال لا أفعال” وشدد على ضرورة تطبيق قوانين صارمة في تشييد المباني والمرافق التجارية .
واتهم شنكالي، مسؤولين ومتنفذين، بالحيلولة دون قيام الدفاع المدني بعمله وفقاً للقانون من خلال إجراء كشوفات دورية على الأماكن التجارية، ويبين:”الفساد المستشري في المؤسسات الحكومية يعد سببا رئيسيا فيما يحدث”. وقال ان “95% من استثمارات القطاع الخاص والعام تفتقد لشروط الدفاع المدني بشكل تام، بما يشمل بوابات الطوارئ وأنظمة الإنذار المبكر والإطفاء وشروط السلامة”.
ونبه الى ان العراق ما زال واحدا من بين دول قليلة “تفتقر لنظام التأمين على الحياة، وهو ما يخلق معاناة إضافية للضحايا أو ذويهم”.
ويعلق رزكار عمير، وهو مهندس متخصص في الطرق والجسور، على النسبة التي نقلها شنكالي بشأن المشاريع التي تفتقد شروط السلامة، قائلا “هذا يظهر البيئة الكارثية التي تحيطنا، والكارثة التي قد تواجهنا في أي لحظة. الأمر لا يرتبط بضعف مديريات الدفاع المدني فحسب، بل حجم الفساد في التنفيذ والعمل بسبب ضغوطات المسؤولين النافذين الذين يقفون خلف المشاريع، فكل العقود تتم في البلاد عبر المحسوبيات والوساطات”.
يضيف بشأن بعض طرق الفساد وعدم الاتزام بالشروط المطلوبة: “يسلمون مواد اخرى للفحص او يقولون بأن البناء انجز قبل شروط ومتطلبات البناء الجديدة ولا يمكن هدمه، ويقدمون كتب بتواريخ قديمة تثبت مزاعمهم”.
تؤشر الكاتبة والناشطة النسوية نرمين المفتي، ذات الأمر بمقال كتبته، ذكرت فيه أن سقوط ضحايا كثر في حوادث عديدة شهدها العراق خلال السنوات الأخيرة، كانت بسبب عدم توفر شروط الأمان والسلامة في تلك المواقع، وتسألت “كيف منحت تلك الأماكن إجازات عمل؟ ” ثم تجيب نفسها بنفسها “إنه الفساد والإهمال”.
سامر، أ، مواطن من مدينة الموصل، يقول بأنه أستثمر ماله في إنشاء مطعم سياحي في الجانب الأيسر لمدينة الموصل، وانه راجع في سبيل إنجاز المعاملة كل المؤسسات الحكومية في المحافظة تقريباً، وأنه سدد لجميعها، إما “رسوماً أو رسوماً ورشاوى للموظفين!”.
قال ذلك بشيء من الإنفعال، وذكر بأنه وغيره من أصحاب المشاريع، يشترون مواد بناء رخيصة لتقليل الكلف، ويتساءل:”إذا كانت ممنوعة، لماذا إذن هي متوفرة وبكثرة في السوق؟ لماذا لا يمنعون استيرادها؟”.
ويضيف: “هنالك دوائر حكومية لا تمنح الموافقة إلا بعد تقاضي موظفين فيها مبالغ معينة”، يطبق كفيه ببعضهما: ويتابع “إجراءات السلامة آخر ما يتم التفكير فيه هنا، والضجة الحاصلة هذه الأيام بسبب حادثة حريق الحمدانية، ستنسى قريباً، وستحدث بعدها حوادث ربما أسوأ، ولذات الأسباب، وسيتم نسيانها كذلك”.