تحولت محافظة كركوك الغنية بثرواتها وتنوعها الثقافي، فجأةً إلى محط لأنظار العالم، بعد خضوعها لتفاهمات الفرقاء الفاعلين في المشهد السياسي العراقي، ما أشعل التوتر داخلها ووضع سلمها الأهلي على المحك، وجعلها عرضة للتدخلات الدولية.
التطورات السريعة التي شهدتها المحافظة خلال الأيام الأخيرة، جاءت بعد قرار رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، بإعادة المقر المتقدم للعمليات العسكرية في المحافظة إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني، وفقا لاتفاق سياسي بين الأطراف المشكلة لحكومته، ما جوبه برفض شعبي وسياسي لا سيما بين العرب والتركمان، وهو ما تسبب باندلاع تظاهرات وأعمال شغب واعتداءات.
ويقول المحلل السياسي عزام الحمداني، خلال تصريح لـ”العالم الجديد”، إن “كركوك مدينة متوترة أساسا، والعناد في المواقف قد يوصل الأمور إلى ما هو أسوأ، وربما يفتح الباب لتدخلات دولية تزيد الطين بلة”.
وازداد التوتر في المدينة الغنية بالنفط، مع اقتراب الموعد النهائي لتسليم مقر قيادة عمليات كركوك إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني (الأول من أيلول سبتمبر الحالي بحسب مصدر لـ”العالم الجديد” في تقرير سابق)، بعد خمس سنوات من مغادرته على إثر قيام الحكومة الاتحادية آنذاك بفرض القانون في المحافظة حينها.
عملية التسليم لاقت رفضا مكوناتيا داخل المدينة المعروفة بتعددها القومي والديني والمذهبي، ما فجّر صراعا كان غائبا منذ 2017 من خلال تظاهرات متعددة التوجهات، رافقتها أعمال شغب وصدامات مع قوات الأمن، قتل على إثرها أربعة مواطنين أكراد على الأقل، وأصيب 16 شخصا آخرون.
العملية توقفت بعد إصدار المحكمة الاتحادية، أمرا ولائيا بعدم تسليم المقر للحزب الديمقراطي الكردستاني، بناء على دعوى منظورة أمامها حول عائدية المقر إلى وزارة المالية، بحسب وثائق رسمية صادرة عن وزارة العدل.
التطور اللافت، حدث بدخول الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على خط الأزمة، حين صرح أمس الأول الثلاثاء، بالقول إن التركمان موطنهم كركوك، وهي منطقة تعيش فيها ثقافات مختلفة ولن نسمح بزعزعة السلام هناك.. يجب الابتعاد عن الأنشطة التي من شأنها تغيير بنية مدينة كركوك الديمغرافية (في إشارة إلى رفضه عودة الحزب الديمقراطي لها) بغية الحفاظ على السلام بالمنطقة.
تصريح الرئيس التركي، قابلته ردود أفعال من بينها، تغريدة لزعيم حركة عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، قال فيها إن “كركوك عراقية والتركمان عراقيون ولا يحق لأي دولة التدخل في الشأن الداخلي”.
وبشأن تصريحات الرئيس التركي، يحذر الحمداني، بالقول، إن “تحول ملف كركوك إلى دولي، عبر تدخل بعض الدول فيه، ستكون له انعكاسات سلبية، وربما يصل إلى مواجهات مسلحة”.
ويوضح المحلل السياسي، أن “هذه التصريحات من شأنها أن تهدد السلم المجتمعي في المحافظة”، مبينا أن “كركوك هي دائما محل خلاف بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان، وبالتالي فقد بات من الضروري السيطرة عليه قبل أن تتعقد الأمور أكثر”.
يذكر أن علاقة رئيس الحزب الديمقراطي مسعود بارزاني وأردوغان، شهدت توترات كثيرة، وأبرزها ما جرى في العام 2017، عندما أصر بارزاني، على استفتاء انفصال إقليم كردستان، وشمل به محافظة كركوك، الأمر الذي قابله برد سريع وفوري، حيث أغلق المجال الجوي مع الإقليم، فضلا عن المنافذ البرية.
يشار إلى أن سفير اليابان في العراق، فوتوتشي ماتسوموتو، دعا خلال لقائه رئيس الجبهة التركمانية أرشد الصالحي، إلى “أهمية مواصلة الحوار بمثابرة بين جميع مكونات المجتمع المختلفة”، مشيرا إلى أن بلاده “تدعم دائما مثل هذه الجهود الديمقراطية في كل العراق بما في ذلك كركوك”.
في الأثناء، يقول الشيخ عثمان زنكنة، وهو أحد شيوخ العشائر الكردية في كركوك، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إن “مواطني كركوك من الكرد ليس لهم مشكلة مع القوميات الأخرى، ونحن شخصنا سابقا بأن التوترات الحاصلة هي سياسية بحتة”.
ويؤكد زنكنة، أن “المواطن بات أسيرا للخلافات السياسية في كركوك، وهنا نؤكد أن كركوك لا تتحمل هذه المزايدات من أجل الانتخابات، خاصة وأن أي انتخابات لم تقدم شيئا لأي مواطن، وهذا الأمر تشعر به كافة المكونات في المحافظة، وخلاصته أن ما يجري هو مزايدات يدفع المواطن ثمنها”.
وكانت القوات الاتحادية أعادت في 16 تشرين الأول أكتوبر عام 2017، الانتشار في كركوك وباقي الأراضي المتنازع عليها التي كانت تحت سيطرة قوات البيشمركة إبان حكومة حيدر العبادي، وذلك بعد إجراء إقليم كردستان استفتاء الاستقلال، وعلى إثرها غادر الحزب الديمقراطي مقراته الـ33 بشكلٍ نهائي ومن ضمنها المقر المتقدم الذي تشغله العمليات المشتركة في كركوك.
وبشأن التظاهرات والتظاهرات المضادة التي شهدتها المدينة، يعلق سفيان النعيمي، شيخ عشيرة السادة النعيم في العراق، وأحد وجهاء كركوك، بالقول إن “للمواطن حق التظاهر والمطالبة بحقوقه، ونحن سنكون معه في حال لم تتم تلبية مطالبه”.
ويشدد النعيمي، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، على ضرورة الالتزام بـ”سلمية التظاهر، وعدم التجاوز على الممتلكات العامة والخاصة، أو الاعتداء على القوات الأمنية التي تقوم بحماية المتظاهرين، لكننا مع إيصال صوت المتظاهر وسندعمه”.
من جانبه، يتهم رئيس الكتلة التركمانية في مجلس النواب أرشد الصالحي، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، عناصر حزب العمال الكردستاني (PKK) بالتصعيد في كركوك، ويؤكد أن “هذه العناصر الإرهابية تشعل الفتنة داخل وأطراف المحافظة”.
ويلفت إلى أن “إجراءات رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في التعامل مع ملف كركوك ليست جدية، وأن ما يحصل هو نتيجة الأخطاء الحاصلة في مفاوضات تشكيل الحكومة، في ظل غياب ممثلي كركوك عنها، وسبق أن قلنا بأن كركوك محافظة حساسة”، داعيا المواطنين إلى “ضبط النفس والتحلي بالحكمة وعدم السماح بحدوث إنفلات أمني”.
جدير بالذكر، أن محافظة كركوك تزخر بالعديد من حقول النفط العملاقة والمعادن الأخرى، فضلا عن غناها الثقافي واحتوائها على مواقع أثرية وتاريخية ما جعلها واحدة من أغنى وأهم مدن العراق والعالم على حد سواء.