صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

تجديد الخطاب الشيعي المقهور

يحتفي المسلمون الشيعة هذه الأيام بذكرى \”الاربعينية\”، وهي (لمن لا يعرفها) مناسبة تستمد رمزيتها من كونها اليوم الذي أعيد فيه دفن رأس الإمام الحسين بن علي بن ابي طالب مع جسده، بعد أن تم فصله في الواقعة الأليمة. 

وتحتل مدينة كربلاء في هذا اليوم رمزية كبيرة حين يحج ملايين الشيعة من العراق ومختلف أنحاء العالم الى مرقد الحسين بن علي في مشهد نادر الحدوث في أي بقعة أخرى، يصاحبه تقليد درجت عليه العادة عند شريحة واسعة من العراقيين، وهو المشي الى المرقد.

فمنذ عقد من الزمن أصبح المشي الى المراقد ظاهرة انثربولوجية جديرة بالدراسة، كونها تعكس الحالة التي بلغها الخطاب الشيعي المقهور طوال قرون قبل أن يجد نفسه فجأة تحت الشمس!

ولكي يصمد هذا الخطاب أمام المتغيرات، فقد بدأ بإعادة صياغة الهوية الشيعية التي تعتبر \”الحسين\” رمزا وسرا لديمومتها، حتى أخذ فرسان هذا الخطاب يفتشون عن أساليب جلية للتعبير عن تلك الهوية بطرق أكثر وضوحا كي تتمكن (هذه الهوية) من الصمود والصعود بوجه كل التحديات التي صاحبت بروزها الأخير.

ولتحقيق ذلك، استلهم هذا الخطاب موروثا نائما، ووقائع تاريخية أيقظتها العاطفة المتأججة والحماس المفرط في ظل اشتداد موجة الشحن الطائفي في العراق والمنطقة عموما، الأمر الذي أسهم في تغيب الكثير من المضامين الانسانية التي قام عليها المذهب الشيعي والدين الاسلامي عموما، من قبيل الانتصار للمظلوم، والتسامح مع الآخر وحبه، وعدم التجاوز عليه معنويا أو ماديا. 

إذ يتطرق الكثير من أولئك الخطباء الى بكاء الحسين يوم عاشوراء، على أعدائه \”لأنهم سيدخلون النار بسببه\”، مستلهما تلك الفضيلة من أبيه علي بن ابي طالب الذي قاطعه ذات يوم أحد الخوارج، وهو على المنبر، قائلا \”كافر ما أفقهك\”، إلا أنه لم يثر أو يغضب. أما أخوه الحسن بن علي، فكان مثالا للصفح والتسامح والكرم، وتراثه الثرّ يشهد بذلك، ناهيك عن سيرة الإمام موسى الكاظم الذي لقب بذلك لأنه كان يكظم غيضه (أي يكتمه).

أما الامام الصادق الذي عرف بحلقاته الدراسية التي كان يحضرها العلماء والفقهاء، فكان يركز على أهمية العلم ودوره في الحياة.

هذه المضامين الانسانية العالية تجدها منتشرة في تراث أئمة أهل البيت، حتى أن كثيرا من خطباء المنبر الحسيني يرددونها من دون التعمق فيها أو تجسيدها عمليا، بل ترى بعضهم يتغاضى عنها في ظل استفاقة الشحنة الطائفية التي تتصف بازدراء الآخر، والانتقاص منه، فضلا عن التجاوز على حقوق الاخرين التي أوصى بها الدين وأئمته. 

قادة الخطاب الشيعي الجديد مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى باستعادة تلك المضامين المهمة، وإعادة تقييم ونقد الطقوس والممارسات التي تسيدت الواجهة المذهبية، وتنفست في مناخ فسيح خلال الأعوام العشرة الماضية، واختلطت بتيار الانفلات والفوضى (الذي عم العراق عموما عقب 2003)، في ظل السعي لاستعادة الهوية المستلبة عبر بوابة الرمز الأقوى \”الامام الحسين\”.

تلك الممارسات كان لها انعكاسات سلبية على الحياة اليومية العراقية، الأمر الذي جعل من الصعب نقدها بسبب التصاقها بالرمز الديني الأكبر وهو الامام الحسين، بحيث أصبح أي حديث عن تلك الطقوس هو تشكيك في قدسية الامام الذي بذل نفسه في سبيل الحق.

لكنه لا يتم الالتفات الى أن تلك العادات التي جعلت من الحسين (وحاشاه) سببا لشل الحياة الادارية والاقتصادية في عموم العراق لفترة تتجاوز الاسبوعين، وسببا لغلق شوارع العاصمة، وخسارة الحكومة لملايين الدولارات، وتعطيل حوائج الناس وقطع أرزاقهم، وسببا لإيقاف الدوام الرسمي في المدارس، وضياع الدروس على التلاميذ، وبالتالي تجهيلهم، ناهيك عن تحويله الى مصدر إزعاج للكثير من الأهالي بسبب مكبرات الصوت التي تزعق ليلا ونهارا من دون أن يتجرأ أحد على طلب ايقافها مؤقتا بسبب الخوف المتضخم من المقدس!

الامر أصبح في غاية التعقيد وعلى قادة الخطاب الشيعي الجديد أن يعيدوا انتاج خطابهم من جديد وأن يعرضوه للعقل والنقد الذي عرف به المذهب الجعفري على مر القرون، وأن يتحلوا بالجرأة لمصارحة جمهورهم بخطأ الكثير من الممارسات الزائفة، التي تحولت الى وبال بحق الامام الحسين\”ع\”، سعيا لتخليصه من كل تلك التهم التي تحاول قتله من جديد. 

إقرأ أيضا