تنساق الصورة متوترة، لا تبحث عن استرخاء وغير مكترثة به؛ لتعلن قدرة السينما على أرشفة الألم. أول إحساس راودني وأنا اجلس في كرسي التلقي متابعا فيلما عراقيا ينبض ألماً وأملاً في محاولة لإعلان وثيقة لطالما نجح الزمن في إخفائها وتزوير الكثير من أوراقها.
تحت تراب بابل، الفيلم الجديد لمحمد جبارة الدراجي، المخرج العراقي صاحب الحركة المكوكية في أروقة الوجع العراقي بلا هوادة، عرض في عرضه العالمي الأول في مهرجان أبو ظبي السينمائي في دورته السابعة، لينتزع وبجدارة جائزة أفضل فيلم عربي، ليضيف اعترافا دوليا آخر لمجمل الاعترافات التي صاحبت سينما ما بعد ٢٠٠٣ في العراق.
ثلاثة محاور أساسية أثارتني وأنا اسلم نفسي لرؤيا المخرج: المحور الأول كان متعلقاً بأهمية العمل على واحد من أهم مفاصل تاريخنا المعاصر: الانتفاضة الشعبية التي تلت طرد صدام من الكويت. والثاني كان الخيار الفني الوعر الذي مارسه المخرج في مزج لحظتي الوثائقي بالدرامي وبإصرار كونها حكاية واحدة. أما ثالث ما أثارني فهو النضج الصوري والإيقاعي الذي وصله الدراجي في تجربته الأخيرة هذه.
سميت بـ\”الغوغاء\” أولاً، ليسحب الإعلام الرسمي في زمن حكم الطاغية التسمية إلى \”صفحة الغدر والخيانة\” ومن ثم محاولة، لم يشاكسها احد، في تمزيق هذه الصفحة من تاريخنا المعاصر؛ تحديدا صوريا. ومضينا منها إلى جوع التسعينيات القاتم واحتلال هز بنية وطن، ليليه صراع طائفي يوشك على تقسيم ذاك الوطن. فننسى أن من ثار على صدام وحماقاته دفنوا تحت تراب بابل. تجاهل وصل الحد به أن ناقدا سينمائيا عربيا يكتب، وبكل وقاحة، إنها انتفاضة لم تحدث أصلا! يريح الدراجي في هذا الفيلم ضميره وضميرنا إلى حد ما؛ ها هي وثيقة صنعت بعناية تلغي فعل التجاهل التاريخي هذا لتضعه في رف التداول اليومي لنمارس ولو اليسير من \”فهم\” لحاضرنا.
في هذه التجربة، يمارس محمد، وبوعي حاد ممارسة سينمائية ذات مخاطر معروفة لدى صناع الفيلم. انه يسير بحذر على الخط الفاصل بين عالمي الوثائقي والروائي، دون السقوط في أي من العالمين ليخرج لنا بعالم سينمائي ثالث، لا خيار لنا إلا بتصديقه والعيش بين مفرداته لساعة ونصف؛ هي زمن الفيلم. إنها عدة خاصة، ليس من السهل اللعب بمفاتيحها، ناهيك عن السيطرة شبه المطلقة على تلك المفاتيح؛ وهذا ما نجح به الفيلم وصانعه في أرشفة قد تركل الشعر قليلا لصالح قسوة واقع قد حدث.
كل هذا حدث في بناء صوري قد يكون من انضج ما قدمته السينما العربية المعاصرة هذه السنة، بلا حذلقة فإن الدراجي يطبق كل ما دعا إليه بازوليني في كون الدال يطابق المدلول في السينما! لا استعارة! كل تكوين صوري وما تلاه من قدرة الربط بين تلك الصور، هو انغماس مطلق في وجع الحادثة وعبثها.
دعوة لتلقي هذه التجربة كما هي.. لا كما تمليه علينا أفكارنا المسبقة في ماهية الفيلم السينمائي.