قبل أيام، كنت في متجر لبيع الأحذية والحقائب النسائية، حين مر بقربي رجل مع عائلته وهو يتمتم بكلمات كنت قد سمعتها: إنه يشكو غلاء المعيشة وكثرة العيال وعدم القدرة على توفير المستلزمات اليومية الحياتية والدراسية! فقلت له: (لماذا أكثرت وزوجتك الإنجاب ولم تخطط وتحدد عدد أفراد أسرتك ؟) فأجابني بهمس لأنني تحدثت إليه بهمس: (أنا لا أقوى على غريزتي، فهي تغلبني كلما فكرت بذلك، أنا ديك يا صديقي! هل تصدق ذلك؟). بعدها غادر المتجر وهو يضحك، فبادلته ضحكا باردا مصحوبا بالحياء من زوجته التي كانت على مقربة منه!
ولأنه (نحن) كبلدٍ نحتل الريادة والمراتب العليا في: الفقر/ البطالة/ خراب البنية التحتية والفوقية/ الجهل/ غياب التخطيط: بزعامة الفساد الإداري والمالي أصبح لزاماً النظر في قضية تحديد النسل، والنظر في قضية التخطيط العائلي!
فما معنى كثرة الإنجاب مع غياب القدرة على توفير الرعاية التربوية والتعليمية والقدرة على توفير المأكل والمشرب المطابق لمعايير التغذية الصحية، والثياب الجميلة، والحياة الكريمة على وجه العموم التي لا يمكن (والحال هذه) أن تنتج بشرا لهم القدرة على صناعة وقيادة الحياة؟! بالتأكيد لا معنى لذلك، و ما هي إلا عبثية كبيرة!
ولكن، ما العوامل الدافعة إلى غياب التخطيط؟
في هذا الخصوص، يمكن أن نلاحظ العوامل الآتية:
أولا: العامل الديني: لطالما سمعت الكثير يستشهد بحديث الرسول (ص): (تكاثروا فإني مفاخر بكم الأمم غدا حتى في السقط منكم)، فهو، أي الحديث، إذا تم سنده فان متنه خاضع لمتغيرات الحياة وتقلباتها الهائلة والسريعة. فحياتنا اليوم أصبحت أكثر تعقيداً من ذي قبل، وصار من الصعب توفير متطلبات الحياة الكريمة… نعم، أصبح من الصعب ذلك! في ما مضى كانت الحياة تتسم بالبساطة بكل تفاصيلها ومراحلها! فكان بإمكان الرجل أن يتخذ له بيتاً من الطين أو القصب، أو أن ينصب له خيمة في أرض الله الواسعة معتمدا على قطيع من الماشية أو أي مهنة أخرى كالزراعة والصناعة والتجارة، فلا فواتير كهرباء ولا ماء، ولا نفقات دراسية ولا ألف حاجة وحاجة. مع هذا، لا أقول إنها بدرجة عالية من البساطة، ولكنها على المستوى العام كانت سهلة! وأنا على يقين بأن كل مرحلة من حياة البشر ككل لها ما يناسبها من المتطلبات السهلة أو المعقدة.
وثمة سؤال: هل إنَّ الرسول (ص) ناظر إلى الكثرة العددية على حساب النوعية التي يمكن أن تعمر الكون ببره وبحره وسماواته؟! لا يمكن ذلك، فلطالما أكدَّ الرسول (ص) على التربية والتعليم، وضرورة أن يقوم الأبوان بالتربية الصحيحة لتنتج إنسانا سويا منتجا. وكم من الغريب أن تسمع من يقول لك: (من شـقَّ فمي كفيل برزقي). لا شك في سعة رحمة الله (الرحمن الرحيم)، ولكن الحياة لا تقوم فقط على لقمة الخبز: فأين التربية وأين التعليم؟ واليوم (ولله الحمد) لقمة الخبز متوفرة، وإن كانت بمشقة للبعض، ولكننا نشهد فيالق من غير المتعلمين! أليست هذه خسارة كبيرة؟!
وللأسف الشديد، يحصل هناك دفع باتجاه كثرة الإنجاب دون تخطيط من أرباب المنابر، والناس البسطاء تثق بهم كثيرا وتأخذ أقوالهم أخذ المسلمات، بينما كان على صاحب المنبر أن يقول: (عليك بالإنجاب ولكن بشروطه: أن توفر الحياة الكريمة لمن ستنجبه: التربية والتعليم، وغيرها من المقومات).
ثانيا: الجهل. فلا يمكن أن ينتج الجهل إنسانا قادرا على التخطيط وبناء الحياة على أسس علمية صحيحة لأن (فاقد الشيء لا يعطيه). ولقد تحدثت إلى رجل فقير لديه خمسة أولاد وأربع بنات، متسائلا: (لماذا ترهق نفسك بهذا العدد وأنت فقير الحال؟) فرد علي في الحال دون تكلف: (أنتم متعلمون ونحن أُميون!). نطق بالسبب الذي قاده إلى الحال الذي هو فيه. وبالمناسبة فان جميع أولاده فشلوا بدراستهم ولم يتمكن أي واحد منهم من تحصيل شهادة السادس الابتدائي، وباشر بعضهم، وبالتدريج، الانخراط بحياة العنل: عمَّال بناء، وكان المفروض والمرجو أن يكون من حملة الشهادات لإنجاز مختلف الوظائف والمهام!
ثالثا: العصبية القبلية ومحاكاة الآخرين. نسمع مع اليقين بأن الكثيرين يعمدون إلى رفع سقف الإنجاب إلى أقصى درجة ممكنة لأجل الحصول على الذكور، ليكونوا فيما بعد، مقاتلين يذودون في المعارك القبلية والأسرية (بالطلايب)! قال لي أحدهم يوما: أتمنى لو أن زوجتي تنجب كل خميس وجمعة! وكان جادا تماما.
رابعا: وهناك عوامل كثيرة كعدم الإحاطة بالوسائل الصحية والطبية التي تساعد على التخطيط. وهناك الرغبة بإنجاب الولد فيما إذا سبقته سلسلة من الإناث، وغير ذلك مما يخطر ببالكم وغاب عني.
وكم نتمنى أن يتم البناء العائلي على أسس صحيحة لتنتج لنا الكفاءات القادرة على مواكبة الحياة ذات القفزات العالية والعريضة التي تحتاج إلى مختلف فنون العلم والمعرفة لتسير بالاتجاه الصحيح.
* كاتب وقاص عراقي