تحقيق: 90% من الإعلاميات العراقيات تعرضن للتحرش

في 27 تشرين الأوّل أكتوبر الماضي، في حوالي الساعة التاسعة والنصف صباحًا، عرف ياسر فلاح…

أمام شرفتها المطلة على الشارع تتأمل الفتاة هـ.م (24 عاما) يوميا حلمها ببريق الشاشة الذي رافقها منذ مراهقتها الأولى وحتى أيام دراستها في صفوف كلية الاعلام، دون وعي منها أن ذلك الحلم سينتهي سريعا بلمسة جسد قام بها مسؤول قسم المراسلين في الفضائية الخاصة التي عملت فيها مراسلةً بعد التخرج لينتهي بها المطاف جليسة المنزل بعد أن اضطرت للاستقالة وتقديم شكوى لدى مدير القناة.

Image

وتروي (هـ.م) حادثة التحرش التي تعرضت لها قائلة “بعد تخرجي من الجامعة عملت في فضائية معروفة كمراسلة وذات يوم ذهبت الى غرفة تسجيل الصوت، فدخل خلفي مسؤول المراسلين وأغلق الباب، واقترب مني ومد يده باتجاه رقبتي، محاولا إدخالها الى جسدي، فأمسكت بها وقمت مندهشة أمامه، وصرخت به: ماذا تريد مني؟ ليجيب: أريد علاقة جنسية معك، فدفعته وتوجهت الى مدير القناة لتقديم شكوى، فرد علي بالقول أنت مخطئة، وقام بطردي من القناة بينما لا يزال ذلك المتحرش يعمل داخل القناة حتى اللحظة”.

وتحاول الفتاة التي فقدت والدها في حادث إرهابي عام 2006 حتى اليوم تجاوز صدمة ما حصل وحيدة  بعد أن اتخذت قرارا نهائيا بالابتعاد عن العمل الإعلامي رغم حاجتها له، وصعوبة فقدان المهنة التي أحبتها ونذرت نفسها لها لأنها تخشى من تكرار ما حصل في أي مجال آخر.

ما لم يعلن

خلف بريق الشاشة وأضوائها في العراق شهرة وجمهور ومتابعون وطموح يدفع الكثير من الفتيات لاحلام الوصول يوما الى فرصة الظهور فيها، لكن خلف كل تلك المغريات يوجد ما هو مسكوت عنه، وتتعرض له الكثير من الفتيات والنساء، فآثرن السكوت خوفا على مستقبلهن العملي، وعلى سمعهتن من العار ونظرة المجتمع.

الشهرة مقابل المحظور

بينما أخفت تلك الفتاة هويتها، حفاظا على سمعتها، كانت الاعلامية أميرة الجابر أكثر جرأة وشجاعة في الحديث عن ما تعرضت له من قبل مدير المحطة الفضائية التي عملت فيها، والذي عمد الى استخدام الضغط والمساومة سبيلا لجرها صوب غايته، إذ تقول “تدرجت بالعمل في احدى المحطات الفضائية في بغداد، حتى عملت كمقدمة برامج، وبعد فترة دعاني مدير القناة لاجتماع منفرد، فطلب مني بشكل صريح أن أكون عشيقته، وعندما رفضت الأمر بشدة، أمر بايقاف البرنامج وطردي”.

وتجزم الجابر بأن حظوظها في العمل مع القنوات الأخرى شبه معدومة لجرأتها بفضح حالات الاستغلال والابتزاز التي تعرضت لها، وتؤكد “تقدمت بشكوى لدى الأجهزة الأمنية، وقدمت أدلة ورسائل تدينه، لكن لم يحصل للمتحرش شيء يذكر لأنه نجل لأحد السياسيين، رغم انه امتنع عن منحي استحقاقي المالي للشهرين الاخيرين”.

ولأنها تعيل طفلتها ووالدتها، فأنها دائمة البحث عن فرصة عمل أخرى بكرامة، لكن ذلك يصطدم دائما بالقلق والخوف من رغبات المدراء والمتنفذين في المؤسسات الإعلامية, وبدت أكثر إصرارا على توعية باقي الإعلاميات وتشجيعهن على الحديث عن الحالات التي يتعرضن لها وكشف المتحرشين.

تحرش بغطاء حكومي

لا يقتصر التحرش بالإعلاميات على المحطات الفضائية التجارية والخاصة، إذ لم تسلم آن صلاح (34 عاما) وهي مراسلة ومقدمة برامج في قناة العراقية شبه الحكومية، من تحرش أحد المسؤولين، لتواجه الفصل أيضا بعد الشكوى والرفض، حيث تقول “كنت قد تدرجت في العمل داخل قناة العراقية الحكومية من مراسلة الى مقدمة برامج وتعرضت من قبل أحد المسؤولين عني في العمل بالتحرش اللفظي لأكثر من مرة وحاولت بالطرق الطبيعية أن أصده دون تحويل الأمر الى مستوى محتدم، لكن لم يتوقف الى أن امتلكت دليلا على محاولاته، لكي أسلك السلوك القانوني”.

وتضيف “قمت بتسجيل إحدى المكالمات له، وقدمتها الى هيئة أمناء شبكة الإعلام العراقي، وبعد التحقيق تم إجراء اللازم ونقل الشخص المعني الى منصب أقل من منصبه في مكان آخر، وتم سحب صلاحياته السابقة، لكن وبعد شهر فوجئت بحركة انتقامية وتم فصلي”.

Image

آن صلاح

تم إنصاف “آن صلاح” بعد فترة من فصلها وتقدمها للتظلم مرة أخرى، فأعيدت بعد شهر الى مكانها للعمل كمقدمة برامج في القناة الرسمية، لتكمل حديثها بالقول “بعد مرور أشهر على الحادثة، التقيت بالمتحرش وعاتبني لماذا فعلت به ذلك، ثم هددني بالقول: أنا رجل غني واستطيع استئجار شخص ليضرب قدميك بطلقتين ويجعلك جليسة طول العمر”.

تمارس “آن” عملها الآن، لكنها لم تتجاوز بعد التداعيات النفسية للتهديد والتحرش التي مرت بها، إذ لا زالت مطبوعة حتى اليوم في ذاكرتها، مؤكدة على أن قوة شخصيتها هي التي دفعتها لمواجهة الامر بقوة وهو ما لا تستطيع الكثير من الاعلاميات عمله خوفا من النظرة التي ستلتصق بهن من قبل الاخرين سواء في المجتمع او حتى في الوسط الاعلامي”.

امتداد المشكلة وصمت الخوف

في العام 2012 أجرى منتدى الإعلاميات العراقيات، دراسة عن التحرش توصلت الى نقاط واستنتاجات مهمة تؤكد تعرض أكثر من نصف المبحوثات للتحرش، لكن مع تفضيلهن السكوت خوفا على سمعتهن من المجتمع وخسارة فرص العمل لتتحدث رئيسة المنتدى نبراس المعموري عن نتائج الدراسة قائلة، إن “68 بالمئة من المستطلعة آراؤهن أكدن تعرضهن للتحرش، حينها حدثت ضجة في الوسط الصحفي بالعراق”.

Image

وتردف المعموري، قائلة “تعرض المنتدى عقب إجراء الاستطلاع لهجمة كبيرة من قبل مؤسسات وشخصيات مختلفة لتطرقه عن الموضوع ومساسه بقضايا محرمة تسيء لسمعة المجتمع العراقي والوسط الاعلامي فيها كما يرى المنتقدون، وهو ما سحب الأضواء عن تلك الاستبيانات”.

فيديو أنفوغرافيك عن الاستبيان الذي اجراه المنتدى ويلخص نتائج الاستبيان

بين الرفض والقبول.. الاعتراف بالظاهرة

توجهنا صوب نقابة الصحفيين العراقيين، لكننا جوبهنا بعدم اعترافها بنتائج استطلاع المنتدى ولا ما توصلنا اليه من حالات، حيث ردت عضو مجلسها سناء النقاش، بالقول “أجرينا استطلاعا خاصا بنا فور خروج نتائج استطلاع المنتدى، وخلصت نتائجه الى أن نسبة التحرش لم تتجاوز ال2   بالمئة، وهو ما يتطابق مع رؤيتها بعدم ارتقائه لمستوى الظاهرة”.

وتؤكد أن “استبياننا شمل 200 صحفية وإعلامية، وتضمن 38 سؤالا حول مختلف الحالات التي يواجهنها، فكانت الإجابات حول موضوع التحرش محدودة رغم أننا لم نطلب ذكر الاسم”، لافتة الى أن “خمسة نساء منهن فقط تعرضن للتحرش، أربعة واجهن تحرشا لفظيا، وواحدة فقط ذكرت بانها تعرضت للمس الجسدي”.

السعي نحو الحقيقة

وما بين استطلاع وآخر، سعينا لإجراء استطلاع جديد أشركنا فيه كوادر أكاديمية عاملة بجامعات عراقية رصينة لتوزيع الاستبانة على 100 إعلامية وصحفية مارست المهنة في مختلف المحافظات العراقية فخلصت النتائج الى: “تعرض ما نسبته 90 بالمئة للتحرش”، مظهرة الى أن “67 بالمئة منهن تعرضن لتحرش لفظي، مقابل 22 بالمئة منهن للتحرش الجسدي”.

في حين بينت نتائج الاستطلاع الذي قمنا به أن 52 بالمئة تعرضن بشكلٍ مباشرٍ للتحرش أثناء العمل، والباقي عبر الهاتف أو مواقع التواصل الاجتماعي”، لافتة الى أن “أغلبية المتحرش بهن فضلن عدم إبلاغ الإدارة، خوفاً على مستقبلهن العملي”.

لكن إجراءات الادارة لمن تقدمن بالشكوى كانت كالتالي “35 بالمئة من الحالات لم تتخذ الإدارة أيّ أجراءٍ إزاء المتحرش، فيما وجّهت إنذارا للمتحرش فقط في 30 بالمئة من الحالات، وفي 17 بالمئة فقط فصلت المتحرشين”.

ويظهر الانفوغرافيك التالي النتائج بالتفصيل:

أسباب تفشي الظاهرة

في إطار الكشف عن حالات تحرش تتعرض لها موظفات في السلك الاعلامي والصحفي دون رغبتهن بالحديث، تعزو الناشطة الحقوقية الدكتورة دنيا أكرم، الأمر الى “ضعف القوانين وتطبيقها حتى من قبل الجهات التي يفترض بها الدفاع عنها، والحد منها، ناهيك عن انحسار الثقافة والوعي داخل المجتمع”.

وتوضح أن “دور الشرطة المجتمعية ليس مفعلا بالصورة الصحيحة, فتفعيل العقوبات الموجودة أصلا في القانون ضد التحرش سيحد من تلك الظاهرة، لكن لا يوجد أحد يقوم بتنفيذه، بل إن منتسبي الشرطة والجيش هم من يقومون بالتحرش أحيانا”.

Image

دنيا أكرم

الاعتراف بقلة الوعي وسياط التقاليد

يقر العميد خالد المحنا مدير الشرطة المجتمعية (أثناء إجراء التحقيق) والذي بات يشغل اليوم منصب المتحدث الرسمي باسم وزارة الداخلية بـ”اتساع ظاهرة التحرش الى جانب غياب الثقافة لدى بعض أفراد الشرطة، وهو الدافع لتأسيس الشرطة المجتمعية التي تشكلت في العام 2008، حيث كانت أبرز أسباب تشكيلها معالجة الظواهر المجتمعية الخاطئة، ومنها التحرش”.

ويشير المحنا الى أن “جزءا من تفاقم المشكلة يكمن في أن أغلب النساء تخشى من إبلاغ رجال الشرطة أو ذويهن أو حتى المؤسسة التي ينتمين اليها.

منوها الى أن “قيادة وزارة الداخلية عازمة على محاربة الظواهر السلبية ومحاولة تثقيف وتوعية أجهزة الشرطة باتجاه أن تكون في خدمة المواطن”.

تسجيل صوتي للعميد خالد المحنا

الرؤية القانونية وتقاطعاتها المجتمعية

ينص قانون العقوبات للعام 1969 بوضوح على أنواع من العقوبات وفقا لنوع التحرش، لكنها لا تطبق بالعادة، خوفا من وصمة العار كما يؤكد الخبير القانوني طارق حرب، نصت المادة (396) من قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة (1969) على المعاقبة بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات او بالحبس  على من اعتدى بالقوة او التهديد او بالحيلة او باي وجه اخر من اوجه عدم الرضا على عرض شخص ذكرا او انثى او شرع في ذلك، فاذا كان من وقعت عليه الجريمة لم يبلغ من العمر ثماني عشرة سنة او كان مرتكبها ممن اشير إليهم في الفقرة (2) من المادة (393) تكون العقوبة السجن مدة لا تزيد على عشر سنين”، كما نصت المادة (397) على انه “يعاقب بالحبس من اعتدى بغير قوة او تهديد او حيلة على عرض شخص ذكراً او انثى لم يتم الثامنة عشرة من عمره فاذا كان مرتكب الجريمة ممن اشير إليهم في الفقرة (2) من المادة (393) تكن العقوبة السجن مدة لا تزيده على سبع سنوات او بالحبس”.

Image

طارق حرب

آثار التحرش ونتائجه

بالعودة الى آثار التحرش ونتائجه فأن القلة القليلة من المتحرش بهن تختار المواجهة كحال نبراس المعموري رئيسة منتدئ الإعلاميات العراقيات التي تحدثت لنا بعد سؤالها عن تعرضها شخصيا لهذا الامر بأنها أيضا تعرضت للأبتزاز مرات عديدة، وكذلك الضغط لإيقاف برنامجها والتشهير بسمعتها من أجل الرضوخ وإثبات الولاء والطاعة ومجاراة رب العمل في مآربه وهو مادعاها لتآسيس المنتدئ كرد فعل على ما تعرضت له ومحاولة مد يد المساعدة للعشرات ممن يتعرضن للتحرش والأبتزاز دون قدرتهن على أتخاذ آي أجراء بالمقابل.

الصمت صفة المتحرش بها

تظهر الدراسة التي قمنا بها حول التحرش بالعاملات في المجال الصحفي والإعلامي كذلك حقيقة مهمة وهي نفور من يتم التحرش بها من الإعلاميات لأبلاغ آفراد العائلة والمقربين من العائلة بل تختار الآغلبية منهن اللجوء الى الغرباء كالزملاء والأصدقاء خوفا من رد فعل الأهل بعد العلم بتعرض أبنتهن للتحرش في العمل والذي يبدأ بالطلب منها ترك العمل والجلوس في المنزل ناهيك عن نتائج التقدم بالكشوى للأدادات والتي انتهت في أكثر الأحيان بردود سلبية وأنتقامية من قبل الأدادات حيث بينت الدراسة التي أجريناها اَنَّ اَكثرَ من 61 بالمِئةِ من المَبحوثاتِ عَمَدْنَ لِلتجاهُلِ خَوفاً من نظرةِ المُجتمَعِ  اَو خِسارةِ العَملِ بينَما تعرَضْنَ مَنْ تَقَدَمْنَ بالشكوى لِلادارةِ اِلى التهديدِ والمُضايقاتِ والفَصلِ اَحياناً والمُفارقةُ أَنَّ الدِراسةَ أظهرتْ أخبارَ ستٍ وثلاثينَ بالمئةِ مِنهُن لِلزُملاءِ بعدَ تَعرضِهُنَ لِلتَحرشِ بينَما لم تَبلُغْ سِوى اِثنتينِ بالمِئةِ وقد بلَّغَ عَنها والدُها أو أخوها عن الأمر ونستعرضها بالتفصيل والارقام في فيديو التوضيح التالي:


 

خلاصة الظاهرة وسياط الذكورية

بينما يبقى المسكوت عنه محظوراً لما يقع خلف بريق الشاشة خوفاً من سطوة المتحرشين وظلم المجتمع تخسر الكثير من الحالمات احلامهن بالظهور امام الشاشة وتحقيق امنياتهن التي تصطدم بالواقع عند مساومة من رب العمل او مقربين منه تبدأ بمجاملة، وتنتهي بلمسة تكون نتائج الرفض فيها البقاء بعيدا خلف أسوار المنزل مع شعور العجز ليس فقط لخسارة الأحلام، بل لشعور الضعف الذي تجبر عليه مرغمة خوفا من نظرة المجتمع.

وعلى الرغم من كسر الكثير من الحواجز التي تحيط بالمرأة مؤخرا بعد ثورة تشرين التي اندلعت في العراق والتي كان من اهم ثمارها كسر حواجز الجنس والحد من التحرش ومشاركة المرأة فيها بقوة الى جانب الرجال، إلا أن المسكوت عنه لازال التطرق له او كشفه من المحرمات، ولازالت الفتاة (هـ.م) أسيرة المنزل حتى إعداد التحقيق، بينما عبرت أميرة عن غضبها من خلال تواجدها المكثف في ساحات الاحتجاج يوميا.

إقرأ أيضا