حتى وقت قريب لا تخفى عن محيّا النخب الشرقية والغربية ملامح الاعجاب بتجربة حزب العدالة والتنمية، بعد سلسلة من النجاحات السياسية والاقتصادية التي حققتها تركيا في ظل تجربة إسلامية مختلفة كثيرا من حيث المبدأ عن التجارب السابقة، الوضع الاقتصادي المستقر جدا والمتنامي، إضافة الى الترتيبات الداخلية المهمّة التي قام بها رجب طيب أردوغان، والتي أعطت زخما أكبر من الحريات للأقليات في تركيا وبالذات للأكراد.. إن تلك التطورات لم تتحقق أساسا حتى حينما كان يتسلم زمام الامور في تركيا من يوصفون بانهم \”أصدقاء الغرب\”!
وبشيء من التوزان في المواقف استطاع الاتراك أن يمسكوا العصي من الوسط ويمدوا أذرعهم الى مختلف المحاور في المنطقة، وهذه قوة السياسة التركية في تلك الفترة والتي رفعت من أسهمها بين اللاعبين الاقليميين، وكذلك أمام القوى الدولية الكبرى، لا بل إن المفاوض التركي راهن كثيرا على لعب دور الوسيط في المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي. ورغم كل ما يقال عن التأثير الإيراني في العراق فإن أردوغان، وليس أيّ مسؤول إيراني هو من حظي بكلمة شهيرة له أمام البرلمان العراقي عام 2011، كان يلقي خطبته تحت قبة البرلمان ويصفّق له الشيعة قبل السنة، والأكراد قبل العرب، لكن وبعد سلسلة من التطورات السياسية التي حصلت في الشرق الاوسط بشكل عام والملف السوري بشكل خاص فإن تركيا اضطرت للكشف عن مواقفها الحقيقية، وتخلّت عن ذلك الخطاب المعتدل الذي عرف عنها.
إن السياسات والمصالح في الشرق الأوسط متضاربة حد الجنون وما تبقّى من التوازن التركي بين مكونات المنطقة أصبح في مهب الريح.
مضاعفات الملف السوري وضعت التجربة الاسلامية في تركيا برمتها تحت المجهر أكثر من أي وقت لاحق، خصوصا بعدما فقدت تركيا ذلك الدور المحايد الذي مكّنها من لعب دور الوسيط في الكثير من الأزمات التي حصلت في المنطقة حينما كانت تحتفظ بحظوة لها عند جميع الأطراف. اما اليوم فتركيا محسوبة على محور بعينه ورغم كل مكاسب ذلك الاصطفاف مع المحور الخليجي، فانه افقدها دورا كانت تراهن كثيرا على لعبه أمام القوى الدولية في منطقة الدخان الموبوءة بالأزمات. هذه الخسائر ترافقت مع تطورات تركية داخلية سارت عكس ما اشتهى السلطان أردوغان الذي دخل في مواجهة داخلية مع القوى المدنية، وهذا ما عرّض تركيا لانتقادات دولية لاذعة حتى من حلفائها الكبار. يأتي ذلك بالإضافة الى معركة ازلية بين الاسلاميين الاتراك وبين العسكر وهي مواجهة حامية الوطيس ومفتوحة على جميع الاتجاهات، وفي هذا السياق يأتي مع ما اعلن اخيرا عن سلسلة احكام بحق اكثر من 200 رتبة عسكرية بتهمة التخطيط لانقلاب عسكري في تركيا.
أما فيما يتعلق بمفاوضات السلام مع حزب العمال الكردستاني، فالأمور ما زالت تراوح مكانها بعد التصريحات الاخيرة لقيادة حزب العمال التي هددت بالتراجع عما تم التوقيع عليه، إذ لم تلتزم الحكومة التركية بشروط الاتفاق.
تركيا ربحت علاقة قوية مع محور بعينه لا شك في ذلك، لكن تلك العلاقة بدأت بالتصدع اثر ما يحصل في مصر بعد اختلاف المواقف السياسية بين بعض القوى الخليجية وحزب العدالة والتنمية، كل منهم وقف الى جنب حليفه الاستراتيجي في مصر. الخطاب التركي المنحاز بشكل صارخ الى لون مذهبيّ معيّن من جهة، والمنحاز أيضا الى الاسلام الإخواني المثير للجدل من جهة أخرى كشف وجها لتركيا غير مرغوب به بالنسبة للقوى المدنية في الكثير من البلدان العربية والاسلامية وهذا ما لا ترغب به تركيا أبدا.
gamalksn@hotmail.com