يخيل لنا أننا نصنع عوالمنا الذاتية الخاصة، ويغيرنا الوهم بالتصور أنها على قدر عال من البريق والتأثير، ما دامت تسدُّ خواءنا الأكيد وعجزنا عن ابتكار إبرة، هكذا وبفوز غريب ننجح نجاحا كارثيا في استعادة الماضي، جاعلين من مروياته المائعة بوصلة حتى لدقات قلوبنا، متناسين انحياز الرواة وحلمهم بخداعنا جماليا وتضليلنا نسقيا.
الماضي يتسلل إلى خلايانا، يسيطر على أسمائنا وألقابنا وشوارعنا وكتاباتنا وأناشيدنا وعواطفنا أيضا، يتحرك في هوائنا مثل كائن دخاني خالد، أراه أحيانا بهيئة رجل منعم مبتسم يعمِّر ثروته وحضوره من خسائر عبّاد الماضي وضحاياه، ولطالما قهقه وهو يرى \”المتعلمين والمثقفين\” يعرضون عن المنهج والبرهان والتحليل والعقلنة والنتيجة، ليكونوا من خدمه الأكثر صخبا وتشويها للحياة.
السيد الماضي يصنع مصائده من الأحداث والشخصيات بدهاء مكين، يضللنا بزجنا في شباك الحدث الماضي تأويلا ومشاركة واتخاذ مواقف، يزرع فينا زهو الفاعلين المهرة، فينسينا تماما أن لنا أحداثنا الراهنة التي تحدد نكهة مستقبلنا، أو يدغدغ مخيالنا بكاريزما الشخصيات التي تخرج من حدودها البشرية إلى غيم هالات أسطورية تشبع نهم الواهم، وتسرق بغرائبية هائلة قدسية الحياة لصالح الكاريزما الخالدة، وهي شخصيات لها ما لها وعليها ما عليها، وإن كانت في النظر المعاصر مجرد صور متحفية للتذكار، لكن السيد الماضي يجعلها أولوية في تراتبية الشعور حتى على أهلنا وأولادنا وأحبابنا وأصدقائنا وشركائنا في قبضة الجغرافيا.
ولعل السيناريو الأخطر الذي يعد له الماضي وجنوده المؤمنون بتفاهاته هو سيناريو محاكاة الحروب القديم بكل اصطفافاتها وزخمها الجنوني الذي يمضي بالجماعات البشرية الى أخدود بركاني وقودا لديمومته، وهنا يلعب \”الساسة والمثقفون والمتعلمون\” دورا مأساويا في تأجيج حرائق الماضي بجثث الأبرياء بإدامة استعادة الأحداث والشخصيات وصناعة الخلاف العاطفي بين المختلفين، وهم أي \”الساسة ومن معهم\” يستغرقون بصلاة طفولية عند أقدام الماضي طمعا بمرويات جديدة ينثرها على تسولهم، لتمدهم بالطاقة الكافية التي تديم صراخهم المؤقت في مشهد الحياة، بوصفهم كومبارسات وجود يستعملهم مخرجو الحياة المدنية في الوقت المناسب لدور يبدو أنهم لا يريدون الفكاك من حتى هذه اللحظة .
*إشارة: ما ذكرته ليس حديثا فكريا بل محاولة لوصف عبث المشهد العراقي على نحو خاص جدا ، والمشهد العربي في بعض مشابهاته المريرة معنا.