سوف أعد إعلان وفاة “نعوم تشومسكي” دعابة جديدة، إذ رحل الفيلسوف الأمريكي عن عالمنا أكثر من مرة خلال الأعوام الماضية.
وفي كل مرة كنا نسمع خبر رحيله نشعر أننا فقدنا أخر الأصوات فصاحة وصلابة في القرن الواحد والعشرين، ولكن يتضح بعد قليل أنها مجرد اشاعة او دعابة ثقافية مثل إشاعات رحيل المطرب ياس خضر (قبل وفاته)، وأن پروفيسور اللسانيات فى معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا (MIT) ما يزال حيا يتنفس ويقاوم ويفكر.
الوقت كان بالنسبة لتشومسكي ما يزال مبكرا لكي ينضم الى الصوت الآخر الذي فقد العالم فصاحته: أدورد سعيد، الذي غادر العالم في عام 2003 وبقي تشومسكي يغرد خارج السرب حتى تم أعلان وفاته عام 2006.
كانت هذه أخر مرة يتم اعلان رحيله بطريقة طريفة للغاية. إذ إن من أعلنها كان شخصية سياسية مثيرة للجدل: الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز.
كانت صورة شافيز في العراق ترتسم بوصفه صاحب الزيارة التاريخية الى بغداد في عام 2000. اول رئيس دولة في العالم يزور العراق منذ غزو الكويت وبدء حرب الخليج. دخل شافيز الى البلاد من ايران عبر منفذ المنذرية الحدودي (190 كلم شمال شرق بغداد) متحدياً الولايات المتحدة التي انتقدت حكومتها عن طريق المتحدث باسم الخارجية الامريكية (ريتشارد باوتشر) زيارته للدكتاتور المنبوذ دوليا. قال باوتشر : انه ليس شرفا كبيرا ان يكون (شافيز) اول رئيس منتخب ديمقراطيا يقوم بزيارة الى الدكتاتور العراقي.
لكن حسابات شافيز لم تكن عراقية أو صدامية، بل كان رجلا يعرف كيف يستخدم الأداء المسرحي على طريقة الرؤوساء في امريكا اللاتينية. لا سيما وأنه أصبح غاضبا بعد أن دعم الأمريكيون الانقلاب الذي أطاح به لفترة وجيزة في عام 2002.
في عام 2006 وصف في خطابه في الأمم المتحدة جورج بوش بأنه “الشيطان” الذي ترك نفحة من الكبريت باقية في القاعة. وفي وقت لاحق قال للجمهور وهو يحمل كتاب تشومسكي المغضل لديه عن الهيمنة الأمريكية إنه قد يكون قد تلوث بسبب وضعه على المنصة التي كان يقف فيها الرئيس الأمريكي. “كان علي أن أرشها بالماء المقس” كما قال ضاحكا للصحفيين.
أعرب شافيز عن أسفه في المؤتمر الصحفي الذي عقد بعد خطابه الحماسي أمام الأمم المتحدة لأنه لم يلتق برمز اليسار الأمريكي وعالم اللغويات العظيم قبل وفاته.

انتشر الخبر عبر وسائل الإعلام العالمية. في حين، كان تشومسكي يتناول القهوة ويتنفس مفكرا في كتابة كتاب جديد اثناء إعلان وفاته. كان حيا أكثر من أي وقت مضى في وقت اعلان وفاته أمام زعماء العالم، ولم يكن الأمر ليثير اهتمامه او يخيفه ولو قليلا.
مع ذلك اصبح اعلان شافيز دعاية تسويقية كبيرة لمؤلفات تشومسكي. ففي خطابه لزعماء العالم في الأمم المتحدة، أشار (شافيز) إلى كتاب “الهيمنة أم البقاء: سعي أمريكا نحو الهيمنة العالمية” (مترجم للعربية ومتوفر الكترونيا)، والذي نشره تشومسكي في عام 2003، بوصفه كتاباً لا بد من قراءته.
نتيجة ذلك، ارتفع ما كان واحدًا من أعمال تشومسكي الأقل شهرة إلى المرتبة الأولى في قائمة الكتب الأكثر مبيعًا على موقع أمازون. وأعرب (شافيز) لاحقا عن سعادته بالانقلاب التسويقي الذي قام به تصريحه المثير. وقال: “لقد أصبحت الآن من بين أكثر الكتب مبيعا في العالم”.
تلك الأحداث كانت بعيدة عن إهتمام العراقيين أنذاك، فقد كانت حقول القتل تمتد في شوارع بغداد ومدن أخرى، والتطهير على أساس الهوية يمنعنا من التفكير في رمز الفكر اليسار العالمي. أو شافيز الذي كان بالأصل ملتصقا بذاكرة العراقيين من زمن الجوع، وبصورة صدام حسين يقود سيارته المرسيدس الرئاسية ويتجول بالرئيس الفنزويلي المنتخب في شارع بغداد ويعبر به جسر الطابقين (الأعجوبة العراقية التي سوقها النظام في فترة العقوبات الدولية على قدرته تشييد برج بابل جديد من الخرسانة والحديد).
اثناء نشر كتابي الأخير (الإبادة الجماعية في الشرق الأوسط)، فكرت أن أهدي الكتاب لتشومسكي و أدورد سعيد. لكن سعيد كان الأقرب الى تفكير الكتاب ومنهجه وكنت أحد دوما في نقد تشومسكي مسا من التطرف اليساري في بلد رأسمالي يتيح لفيلسوف أن يقول ما يشاء.
انتصر سعيد بتراثه ومنهجه وأفكاره الحية دائما أبدا، كذلك، فإن تشومسكي حي في أعماله وتراثه ومواقفه التي لا تلين.
لذا، تشومسكي لن يموت بسهولة..