خرج أبو جعفر المنصور من بغداد ولم يعد، ذهب إلى الحج فأدركه الموت في الطريق وتولى ابنه المهدي الخلافة سنة ١٥٨ه. في هذه الأثناء كانت رصافة بغداد قد قطعت شوطاً في العمران، فاحتوت جامع الرصافة الكبير وقصر المهدي وما حولهما من الدور والقطائع. لكن المهدي قرر لسببٍ ما سنة ١٦٤ه أن يبني قصراً جديداً له في محلة عيساباذ شرقي بغداد. فابتدأ ببناء قصرٍ مؤقت، إلى أن انتهى من بناء قصرٍ آخر أقام فيه في السنوات الأخيرة من حكمه، و أنشأ فيه داراً لضرب النقود.
هذا القصر الذي قضى فيه المهدي سنواته الأخيرة، اختلف المؤرخون بشأن تسميته، وسنثبت في مقالنا هذا اسمه الصحيح، بالاستناد إلى النقود المضروبة في دار الضرب التي كانت مرفقة بذلك القصر.
فلقد ذكر الطبري من جهة في أحداث سنة ١٦٤ه من تاريخه:
(وفيها بنى المهدي بعيساباذ الكبرى قصراً من لبن، إلى أن أسس قصره الذي بالآجر، الذي سماه قصر السلامة، وكان تأسيسه إياه يوم الأربعاء في آخر ذي القعدة).
وفي أحداث سنة ١٦٦ه:
(وفيها تحول المهدي إلى عيساباذ فنزلها، وهي قصر السلامة، ونزل الناس بها معه، وضرب بها الدنانير والدراهم).
بينما أورد آخرون، من جهة ثانية، منهم ياقوت الحموي في معجم البلدان، في مادة عيساباذ:
(وبنى بها المهدي قصره الذي سماه قصر السلام فبلغت النفقة عليه خمسين ألف ألف درهم).
والخطيب البغدادي في تاريخ مدينة السلام:
(أخبرنا إبراهيم بن مخلد، قال: أخبرنا إسماعيل بن علي الخطبي، قال: سنة أربع وستين، يعني ومئة، بنى المهدي بعيساباذ قصره الذي سماه قصر السلام). (تاريخ بغداد، الجزء الأول، ص ١١٣)
فمن المصيب ومن المخطئ؟ وهل هو قصر السلامة أم قصر السلام؟
بالجمع بين النصوص، يتبين أن المهدي بنى بعيساباذ هذه قصراً من لبن (أي من قوالب الطين التي تترك تحت الشمس لتجف) سنة ١٦٤ه، ثم انتقل سنة ١٦٦ه إلى قصرٍ آخر بناه بالآجر (أي بالطابوق الطيني الذي يُدخَل في أفران)، وأن المهدي ضرب في هذا الأخير نقوداً.
فإذا رجعنا إلى النقود المضروبة في ذلك القصر، ومنها هذا المثال في الصورة من مجموعتي الشخصية، وجدنا النقش الوارد على هامش الوجه منه كما يلي: بسم الله ضرب هذا الدرهم بقصر السلام سنة ثمان وستين ومئة. وعلى أسفل الظهر منه:
الخليفة المهدي.
وعليه فإن الاسم الصحيح لقصر المهدي في عيساباذ هو قصر السلام، وليس قصر السلامة، مع العلم أنه لم يُعرَف عن المهدي أنه بنى قصراً آخر في تلك السنوات، وبما أن سنة ضرب هذا الدرهم (١٦٨ه) موافقة لتسلسل الأحداث في المصادر التاريخية أعلاه، فإنه ما من شك في أنه ضُرِبَ في القصر المعني، وهكذا أخطأ الطبري و أصاب ياقوت والخطيب.
نقل عددٌ من المحققين المتأخرين خطأ الطبري، فعلى سبيل المثال خلط الأب أنستاس الكرملي بين قصر المهدي وقصرٍ آخر كان اسمه قصر السلام أيضاً، بناه الرشيد لاحقاً في الرقة أثناء خلافته، فذكر مايلي:
(قصر السلام هو أيضاً غير قصر السلامة. فقصر السلام من أبنية الرشيد بن المهدي بناه بالرقة رقة بغداد في الجانب الغربي من المدينة. وأما قصر السلامة فكان بناه المهدي سنة ١٦٤ في عيساباذ الكبرى أي في الجانب الشرقي. وأول ما بناه في عيساباذ قصر من لبن إلى أن أسس قصره الذي بالآجر وكان تأسيسه إياه يوم الأربعاء في آخر ذي القعدة وتحول إليه المهدي سنة ١٦٦. ). (مجلة المشرق، العدد السابع، ١٩٠٧، ص٣٠٢)
أما المعمار العراقي محمد مكية في كتابه (بغداد) الذي كانت طبعته الأولى سنة ١٩٦٢م ثم أعيدت طباعته سنة ٢٠٠٥م، فأشار إلى التسميتين دون الترجيح بينهما، فذكر في عداد قصور بغداد العباسية (قصر السلام والسلامة) عنواناً لقصر المهدي في عيساباذ، ناقلاً روايَتَي الطبري والبغدادي دونما تفضيل بين المصدرين.
(بغداد، طبعة دار الوراق، ص٣٥).
ومن الذين نقلوا عن الطبري أيضاً، الدكتور صالح أحمد العلي في مقاله (منازل الخلفاء وقصورهم في بغداد) المنشور في مجلة سومر سنة ١٩٧٦، والذي جاء فيه: (ومن المعلوم أن عيساباذ كان فيها قصر الطين وقصر السلامة). (سومر المجلد ٣٢، الجزء الأول، ص ١٥٦) ، ويضيق بنا المقام هنا عن ذكر المزيد.
لعل ندرة دراهم قصر السلام من أسباب تناقل تسميته الخاطئة، فهي نادرة لم تُضرَب سوى لثلاث سنوات (١٦٧ه – ١٦٩ه)، ولم تحظَ بالنشر الكافي. فضلاً عن قلة المعلومات المتعلقة بعيساباذ التي يُعرَف أنها كانت في الجانب الشرقي من بغداد، وأنها كانت إقطاعة لعيسى بن المهدي، لكن لم يُحدَد موقعها الدقيق من قبل المؤرخين أو غيرهم.
ومن المصادر الأدبية التي ذكرت قصر السلام اسماً لقصر المهدي، كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، الذي أورد على لسان الشاعر مروان بن أبي حفصة، ما نصه:
(دخلتُ على المهدي في قصر السلام، فلما سلمتُ عليه، […]). (الأغاني، الجزء العاشر ص٨٩).
كما جاء في قصيدة لأبي العتاهية في ديوانه:
سُقيتَ الغيثَ، يا قصر السلامِ
فنِعمَ محلَةُ المَلْكِ الهُمامِ
لقد نشرَ الإلهُ عليكِ نوراً
وحَفَّكَ بالملائكةِ الكرامِ
سأشكرُ نعمةَ المهدي حتى
تدور عَليّ دائرةُ الحِمامِ
على أنه لولا نجاة دراهم قصر السلام من مخالب الدهر، لما أمكن القطع بالقول الصحيح في تسميته، وهذا مثال على تصحيح المصادر التاريخية المكتوبة، والترجيح بينها، بمقارنتها بالنقوش المثبتة على النقود، وأهمية هذه الأخيرة بوصفها مصدراً للمعلومة التاريخية، ووسيلة لإزالة اللبس الحاصل من تضارب الأخبار أو ندرتها.