جمعتني الظروف مع عدد من المهندسين العراقيين خلال رحلة عمل في ليبيا بنهاية عقد التسعينيات، وما لاحظته على هذا العدد من المهندسين العراقيين أن لغتهم الإنجليزية كانت تبدو ضعيفة جداً. علمت لاحقاً منهم أن ذلك يعود لنظام التعريب الذي كانت تتبعه كليات الهندسة في العراق في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين. فكان طلبة تلك الجامعات يتلقون دروس علوم الهندسة باللغة العربية مما جعل القليل منهم قادراً على التواصل والتلاقح في اللغة الانجليزية بسبب عائق اللغة.
بمراجعة تاريخية بسيطة للترجمة والتعريب، في القرن العشرين وفي محاولة لإثبات الذات العربي القومي بدأت سوريا تعريب مناهجها التدريسية، وذلك رداً على الاحتلال العثماني الذي كان يعتمد سياسة التتريك في سوريا والدول العربية. خطوة بدأتها سوريا قبل أكثر من قرن عندما عَرّبت مناهج الطب والهندسة الى اللغة العربية. استمرت سوريا على هذا النهج ولم تغيره لغاية اليوم. لو تفحصنا بدقة الفوائد والمصالح المتحققة لكلِ من اللغة والعلم، وأجرينا تقييم شامل لمسيرة هذا النهج في سوريا، سنكتشف باعتراف السورين أنفسهم فشل تجربة التعريب السورية رغم نجاحها في بدايتها عام 1923. وكذلك سيتبين لنا نوعية وكمية الأضرار التي لحقت باللغة والعلم من خلال اعتماد استراتيجيات التعريب السورية.
ولو رجعنا الى بداية القرن التاسع عشر وما بعده، لعلمنا إن رفاعة رافع الطهطاوي عندما عاد الى مصر من رحلته الى فرنسا عَرّب الكثير المصطلحات الفرنسية الحديثة الى اللغة العربية وأضافها الى القاموس العربي، ومنها (سكك الحديد، والجريدة). وفي لبنان فعل فارس الشدياق نفس الشيء عندما سافر الى إنجلترا والبانيا وعاد الى لبنان ليعرب الكلمات التي أنتجتها الثورة الصناعية في أوربا.
محاولات التعريب ظهرت في كل من مصر ولبنان وسوريا عن طريق رفاعة الطهطاوي وفارس الشدياق ونصيف اليازجي. هؤلاء سبقوا عصرنا وأحسوا بضرورة الحفاظ على أصالة اللغة العربية لغة القرآن وإيقاف غزو المفردات الأجنبية نحوها.
تبين لاحقاً إن هذه المحاولات رغم أهميتها لم تنتج إلا عن إنشاء مجامع اللغة العربية في سوريا والعراق ومصر والجزائر ومن ثم اتحاد المجامع العربية. وتوقف سير مشروعهم الهادف الى تحويل اللغة العربية الى لغة منتجة ومصدرة للمصطلحات وليست لغة حاضنة للمصطلحات الأجنبية.
بعد سكون وهدوء لعقود طويلة يظهر اليوم الأزهر على الملأ ليعلن عن مقترح مشروع جديد يهدف الى تعريب دراسة الطب والصيدلة في جامعاته. نعود الى سؤالنا في مقدمة هذا المقال ونسأل من المستفيد من استراتيجية التعريب، اللغة أم العلم؟
الكثير سيكون جوابهم إن اللغة العربية هي التي تستفيد من خلال تحصين جدارها الاصطلاحي ومنع الاختراق الاصطلاحي الأجنبي لها، متناسين أن هذه الفرضية تحد من فرصة تطور العلم وتبقيه متواضع غير قادر على مواكبة ما ينتج من العلوم في اللغات الأخرى والتي غالباً ما يكون أصحابها هم المنتجون الحقيقيون لكل المصطلحات العلمية الحديثة. وكذلك لا يسلم هذا الرأي من النقد، حيث إن البعض يختلف في موضوع عزل اللغة وحرمانها من استقبال وتبني مصطلحات أجنبية جديدة، تلك المصطلحات التي اقترضت في السابق من اللغة العربية وأصبحت مع الوقت لاتينية ومن ثم انجليزية وفرنسية والمانية. أي إن أصحاب هذا الرأي يعتبرون الخسارة التي تتلقاها الدول المعربة هي خسارة مزدوجة في اللغة وفي العلم.
وإذا ما عدنا الى استذكار معلوماتي مهم، وهو إن بغداد في زمن العباسيين كانت منتجة بغزارة للمصطلحات العلمية، بل إن الأوروبيين ترجموا إرث العباسيين والأمويين العلمي والفلسفي ليبنوا حضارة أوربية متطورة جديدة. ويضاف لهم حالياً إن كل من الروس والألمان والفرنسيين واليابانيين والصينيين وحتى الأتراك يُدرّسون كل مناهجهم العلمية في جامعاتهم بلغاتهم الأم. إذاً لماذا لا نكرر ما قامت به بغداد في زمن العباسيين ولماذا لا نكرر تجارب الدول الأوربية والأسيوية غير الناطقة بالإنجليزية؟
الجواب بغداد عندما كانت تنتج المصطلح العلمي العربي كدولة عظمى، وكانت راعية للعلم ولا تحتاج استقراض المصطلحات من الأوربيين. بغداد نقلت تلك المصطلحات من السريانية والإغريقية والهندية والفارسية لتنحت للغة العربية مصطلحاً خالصاً لها. وكذلك الدول الأوربية الحالية هي دول منافسة وشبه عظمى، فهيّ تجد في لغتها وقدراتها العلمية الفرصة لإنتاج المصطلح العلمي الخاص بها، لكي تدرس به مناهجها في الجامعات بلغتها الأم. فهي تحافظ على هويتها القومية من خلال توطين ما يصلها من علوم وتغريب ما تصدره من علوم.
في المحصلة الدولة الضعيفة غير القادرة على المنافسة العلمية مرغمةٌ على الاحتماء بمصطلحات اللغات المنتجة لها، والعرب إذا ما فكروا بالتعريب عليهم اولاً اكتساب القوة التي تمكنهم من تطوير العلوم ذاتياً، ويتجنبوا أن يكونوا مقلدين لغيرهم.