فتحت الطريقة البشعة التي اعتدت فيها عناصر من قوات \”سوات\” الأسبوع الماضي على مدرب فريق نادي كربلاء بكرة القدم محمد عباس وأدت لوفاته سريريا، الباب واسعا أمام الجميع لمعاينة عمل هذه القوات تحديدا، وأسلوب تعامل القوات الأمنية العراقية عموما مع المواطنين الذين يفترض أنها وجدت لحمايتهم.
ولعل رمزية مدينة كربلاء التي جرت فيها الواقعة، والنهاية المحزنة والمفاجئة لمسيرة هذا الرياضي المحبوب الذي عاد من مغتربه الهولندي ليخدم ناديه مجانا، نتيجة ضرب مبرح بالهراوات على الرأس تسبب بشلل دماغي وركل في كل مكان من الجسم تسبب، فيما تسبب، بعجز كلوي، وبكل الظروف المحيطة بالحادثة وتداعياتها جردت وزارة الداخلية ومن ورائها الحكومة والقيادة العامة للقوات المسلحة ومناصريها في البرلمان من أية شبهات كانت تتذرع بها في حالات أخرى سابقة قامت بها هذه القوات باعتداءات وحظيت بحصانة حمتها من المساءلة.
بكل دلالاتها وأبعادها الفجائعية، تسببت هذه الجريمة عقب المباراة الأولى التي قاد فيها المدرب فريقه بدوري النخبة، بردات فعل عنيفة وبتداعيات غير مسبوقة في الوسط الرياضي، أحرجت الاتحادات الرياضية والمؤسسات الحكومية لتصدر بيانات متأخرة عن شجبها للاعتداء مطالبة بالقصاص من المعتدين.
وفيما كانت مواقف الرياضيين والإعلام الرياضي العراقي متقدمة في الكشف عن الواقعة، وقررت نحو نصف أندية النخبة التضامن مع فريق كربلاء والانسحاب من الدوري أو عدم خوض مبارياتها حاليا، تبنى بعض السياسيين من كتل مختلفة مواقف رافضة وصلت للمطالبة بحل هذه القوات غير الدستورية كما طالب ائتلاف العراقية بأجنحته المختلفة، فيما طالبت شخصية مثل وزير الداخلية الأسبق ورئيس كتلة المواطن البرلمانية باقر جبر الزبيدي بإنهاء ما وصفه بعسكرة المجتمع، شاجبا \”الاعتداء على المجتمع وبث الرعب والخوف في صفوف الناس وارعاب الحياة الرياضية..\”، وهو توصيف دقيق وفق فيه كثيرا.
وقد أدت هذه المواقف الشجاعة بمجموعها إلى تسريع اتخاذ القائد العام للقوات المسلحة قرارا بفرز المعتدين على المدرب، واعتقالهم للتحقيق معهم، وهي خطوة ضرورية، لكنها غير كافية، فالمطلوب إعادة نظر كاملة بهذه القوات المثيرة للجدل.
طوال سنوات، ومنذ تشكيلها في 2003، تداول الشارع العراقي قصصا محزنة عن تجاوزات قامت بها عناصر من هذه القوات، على مواطنين ابرياء أثناء قيامها بمهامها التي لا يعترض المنتقدون على قيامها بها – بعد انفكاكها من الجيش الأميركي- بقدر اعتراضهم على أسلوب التنفيذ الذي لا يراعي في الغالب حقوق المواطنين.
ولقد رأى الناس في كل المدن مواكب قوات \”سوات\”، التي لا أعرف مغزى احتفاظها بهذا الاسم بعد رحيل الاحتلال، وهي تنطلق في شوارع المدن التي تنشط فيها وكأنها تسير في ساحة حرب مفتوحة على كل الاحتمالات، وليست في شوارع عامة مخصصة للمدنيين، ضاربة عرض الحائط بتعليمات المرور، وأرواح الناس وممتلكاتهم، خالقة الذعر والاحتقان وشعور المواطن ومنتسبي المرور بعدم الكرامة.
هذا السلوك الذي ينطوي على رغبة مكشوفة للدفاع عن النفس فقط أمام عدو مجهول، ولخلق الرعب في صفوف الوسط الذي يتحرك فيه هذا العدو، جاء في اعتقادي عن طريق تقليد لنموذجين قاتمين؛ الأول الأسلوب الترهيبي للأجهزة الأمنية الخاصة خلال حكم نظام صدام، لا سيما بعد العام 1991، والثاني – وهو الأقرب – الجيش الأميركي المحتل للعراق، وما كان يقوم به من تجاوز لكل شيء؛ من أرواح البشر وكراماتهم وممتلكاتهم والممتلكات العامة، معتمدا على حصانة تامة من اي عقاب.
وفضلا عن حالات كان زج قوات \”سوات\” فيها مثار جدل عميق لدى الرأي العام والنخب الثقافية والمجتمعية والسياسية، كقمع تظاهرات 25 شباط 2011 وأحداث الحويجة مؤخرا، أخذ بعضها أبعادا قانونية وأخرى سياسية فيما أخذ بعض منها منحى طائفيا، شاعت لدى الرأي العام قصص لا حصر لها، تحتاج بالتأكيد إلى تحقق وتحقيقات للتأكد من مصداقيتها، عن حالات اعتداء صارخة بحق مواطنين ابرياء وحرمات بيوتهم، شاء لهم سوء حظهم أن يكونوا موضوعات لشكايات بعضها كيدية. ويتناقل مواطنون حالات كثيرة اتهمت فيها عناصر من هذه القوات بسرقة أموال وحلي من تتم مداهمة بيوتهم..
في هذه الأجواء تبدو الساعة مؤاتية الآن لنزع حالة \”التابو\” الذي باتت تحظى بها مثل هذه القوات والتشكيلات الأمنية المماثلة نتيجة تصاعد العنف الأعمى والمبصر الذي عانت وتعاني منه البلاد، بعيدا عن الرقابة والمساءلة والعقاب القانوني عند تجاوز عناصرها للأدوار المنوطة بها، والمفترض أن تؤديها بكل أمانة وحرص على حياة المواطنين.
الخطأ المميت، في رأيي، هو أن تتجه المؤسسة العسكرية والأمنية عموما، وخلفها الحكومة ومعسكر القوى الأساسية فيها والثانوية الممثلة في البرلمان للدفاع المستميت بحق وبدونه عن عمل \”سوات\” وسائر الأجهزة الأمنية بدعوى أنها تمثل خط الدفاع الأول بمواجهة العنف.
وعلى العكس من ذلك، أعتقد أن إعادة تقييم تجربة هذه القوات وأية قوة أخرى مماثلة، سيكون في مصلحة إعادة ترميم النسيج المجتمعي الذي أصابه الكثير من التمزق بعد عام 2003، فمحاسبة المسيئين من العاملين في كل الدولة العراقية بلا تمييز سيكون عاملا مهما في تعزيز الأمن الداخلي. ولا شك أن الكثيرين من الضحايا المتنوعين لهذه القوات، من الأبرياء طبعا، زادت فرصة تجنيدهم من الجماعات الإرهابية المسلحة التي لا تريد لهذا الوطن أن يستقر.
وأظن أن العمل الإيجابي الذي يقوم به الكثير من المخلصين والمهنيين في القوى الأمنية العراقية في مقارعة جماعات مسلحة إرهابية تفتك بالمواطنين الأبرياء برغم كل التحديات السياسية والطائفية واللوجستية القائمة، يكاد يضيع الكثير من نتائجه بسبب تصرفات سلبية تحسب بالنهاية على مجموع هذه القوى.
إن إعادة التقييم المستمرة لأداء قوى الأمن عموما في العراق، وإبعادها عن أية أدوار يشم منها الاستخدام الطائفي أو السياسي، سيصب إيجابيا في دعم العملية السياسية المتعثرة، ويحقق الكثير مما تعجز عنه كل الدعوات للإصلاح والتلاحم بين القوى السياسية في جو إقليمي ينذر بأسوأ مصير يمكن أن تنجر له المنطقة.
يتوجب وضع هذه القوات وغيرها تحت رقابة مسؤولة، وإعادة تشكيلها وفقا للقانون والدستور، وتغيير اسمها الذي توارثته، وفتح تحقيقات نزيهة بكل الحالات السابقة التي اتهمت فيها بالتجاوز على أرواح مواطنين وممتلكاتهم، وفرز عناصرها المسيئة، ودمج العناصر الإيجابية، والتي أظنها أكثرية، ضمن قوات رسمية يقرها البرلمان ضمن الهيكلية العسكرية الرسمية بعد إعادة تأهليهم في مجال حقوق الإنسان وصيغ التعامل الصحيحة مع المواطنين واحترام كراماتهم وكافة حقوقهم التي كفلها الدستور.. وهذه كلها مطالب تعيد الاعتبار لهذه القوات وعناصرها التي لا جدال بين العراقيين على أهمية أن تنهض بدور مشرف في حماية الأمن الداخلي ومقارعة الإرهاب وفق طرق حديثة تتكامل فيها الأدوار بين التشكيلات الأمنية وغير الأمنية بما يقلل، أو يوقف نهائيا الأذى المكثف الذي تعرض له العراقيون طوال عشر سنوات عجاف.
*باحث وصحفي