مجموعة محمد علوان جبر القصصية “شرق بعيد” تؤسس وجودها السردي عبر توجيه مسبار حساس نحو الشرق “المكان” لتقريبه والدخول في تفاصيله برداء الفنتازيا المتحركة وإجلاس الحقائق في اماكن يراها من يدقق النظر.
فالكاتب يتعامل مع مهمة التعبير عن الحقائق والوقائع كما يتعامل النحات مع قطعة الصلصال المطواعة، يشكّلها على وفق ما تقبلة الحقيقة الفنية، بعد تدخل مخيلته الخلاقة، ليبدأ معاناة إختيار وسائل الإيصال بشكل واضح ومؤثر عبر سلسلة من التكسرات أو الانعطافات السردية.
ورغم ان الكاتب قدّم لقصة “نجمة” بمقتبس من واحد من اصحاب الرأي العالميين بما يشير الى صعوبة التعامل مع الحقيقة، بله الوصول اليها، الا إن “نجمة” تقدم ثيمتها حول ذلك برداء شديد الشفافية وعالي الاشعاع.
الكاتب لا يتعامل مع الموت باعتباره ظاهرة طبيعية ذات بعد فلسفي، بل يخلخل جهود “الإماتة” اي جهود إنهاء الحياة البشرية على سبق إصرار ويشير بشكل إيحائي غير مباشر الى القوى التي تقف ورائها، لكنه يعطينا شخصية \”نجمة\” بكل المعنى الذي تحمله النجمة حين تنظر اليها من وراء دخان البارود.
فرغم اننا لا نبصر كامل بريقها الا انها تبقى معبأة بوعودها الباهرة اللاحقة، بل انها تعطينا بعض البشرى من خلال حبها لزوجها المغدور ومكوثها الى جانبه وتلاحقه اينما ذهب.
إن شخصية \”هوبي عبد الرزاق\”، زوجها تحملت الوزر الاكبر في انجاز التحشيد الوجداني، بل انها احتضنت معظم بؤر التصعيد التراجيدي في الجسم السردي.
لقد تحتم على هوبي ان يعيش نصف حياة ، فهو بين الجنون والعقل بسبب اصابة قاسية اصابت راسه فاحدثت فيه حفرة مفتوحة الى السماء، خرج الى شوارع المدينة في مشهد ينبض بجمر الاحتجاج دون ان يفقد توازنه.
استخدم الكاتب تقنية الجنون المدعم بالحكمة الانسانية لاحداث الوخز الكافي المؤثر في عقل المتلقي، فانجز بذلك بيانا للحقيقة المدججه بالخيال، ولنلاحظ ان قضية هوبي احتضنتها رواية \”ذاكرة ارانجا\” للكاتب نفسه بالاسلوب الروائي الذي يمتلك شروطه الخاصة، وهي شخصية رئيسية فيها.
توضح نتائج الجهد البشري عبر التاريخ ان الباحثين عن الحقيقة هم إما علماء او فلاسفة أو فنانين، لكن إختلاف هؤلاء في وسائل التعبير أو طرق البحث هو الذي يحدد المصطلحات الدالة عليها.
في العمل الفني قد يجري احتضان احدى هذه المجالات او قد يحتويها كلها، فقد كانت روح الفن تطغى على اعمال واشنطن ايرفنغ وكان توليستوي فيلسوفا بالاساس بينما كانت جين اوستن متابعة نشطة للعلوم، الا أن ناثنايل هوثورن قد استطاع احتواء المناطق الثلاثة في أعماله خاصة في “بيت الجملونات السبعة” وغيرها من اعماله كما يعتقد النقاد.
لو عدنا الى “شرق بعيد” وفق هذا التصور لوجدنا ان قصة “انكسارات هشة” تعطينا صورة وافية عما يجري في الوضع البشري في اجواء العلم والربط الفلسفي بين الوقائع العملية فضلا عن الخلق الفني.
واستطاع الكاتب تسليط كاميرا عملاقة من رؤيته على جغرافية المكان، انتقلت الكاميرا بين قمة الجبل والسفح والاغوار التي تشكلها تعرجات الارتفاعات الشاهقة، واعطت اوصافا للمناخ، واخرى لعمل المنظار بيد قناصيَن يمثلان مصدرين من مصادر استهداف الكائن البشري بما يذكرنا بعيني “اتينا” الاسطوري الذي خلقته الملاحم السومرية حين وصف الارض وهو مستقر على ظهر النسر في الاعالي.
يقوم التفجر التراجيدي على اساس التناقض الحاد بين بساطة الغرض الذي دفع بزوجين مكلومين بوفاة طفليهما الى ترميم قبره وبين اغراض المتحاربين في ابادة كل حركة بشرية ضمن القاطع الذي يفصل معسكريهما، وكأن الزوجين صارا عدوين لاصحاب المنظارَين المتعادييَن اصلا والمفارقة المرة التي حرص الكاتب على ابرازها هي \”اتفاقهما\”على استهداف النفَس النبيل، بل ان العداوة بين المعسكرين قد تراجعت حين عثرا على عدو جديد مسلح بعكاز يستخدمه الزوج مع قليل من الاسمنت لغرض الترميم، مما سلط ضوءا كاشفا على الجانب الهمجي للحرب الصادر من الطرفين وهذا واقع تاريخي عاشه العراقيون في حروب الانظمة السياسية في المنطقة.
ان تلك الأحداث ودلالاتها تستفز الميل نحو التفكر والتامل الفلسفي فيما يجري . فيقدم الكاتب جزءً من هذا الهم في حوار سريع بين الزوجين لخلق حالة التوازن بين السبب والنتيجة.
تقول المرأة وهما يرتقيان قمة شاهقة: “انا اصعد نحو السماء…”، فيجيبها الزوج: “نحن نصعد الى السماء لننحدر الى القبر…”، في محاولة حاذقة لتقديم فنتازيا الموت والحياة بشكل تجليات فلسفية في ظروف تختزن الكثير من المرارة.
إن “انكسارات هشة” تذرف بعض نزيفها نحو قصصص اخرى مثل قصتي “مقامة العاشق” (ص 70) و“(وقائع موت معلن )” (ص 90)، ففي الأولى يموت الدكتور العاشق ابراهيم بالاغتيال بسبب حبه الانساني لبني البشر وخاصة من لايمتلكون تكاليف العلاج، وفي الثانية تتعرض الشخصية الرئيسة “عبد العزيز جاسم” للقتل لأن القتلة اكتشفوا ان الضحية كان أعلن كراهيته للحرب في مقاطع متعددة من احدى رسائله الى حبيبته، ويمكننا ان نتمنى على الكاتب ان يطلق عنوان “وقائع قتل معلن” بدلا من العنوان المقتبس من رواية لزميله الكولومبي غارثيا ماركيز حيث وضعه بين هلالين.
وقد سجلت القصتان انتقالة رئيسية في التعامل الفني، فقد استخدم الكاتب تقنية الهامش الذي هو الجزء المكمل للنص السردي الأصلي، واحتل هامش “مقامة العاشق” اكثر من صفحتين ونصف بحجم حرف صغير، اي ما يمكن ان يشكل حجما اكبر من حجم النص الاصلي.
إن اللجوء الى الهامش يؤسس هاجس التوثيق واستخدام الوقائع الصارمة لدعم الحقيقة الفنية حيث نجح الكاتب في اقناعنا بان ما حصل للضحيتين تؤكده الحياة بكل ما تتعرض له من وسائل \”الإماتة\” وبذلك يكون الهامش جزءً هاما ومكملا من السرد.
يعتقد النقاد ومنهم “تزيفتيان تودوروف”، ان هناك ثلاثة انماط من الحكي هي التسلسلي والترصيعي والتناوبي، ويقوم التسلسلي على رواية حكايات مستقلة بينما يقوم الترصيعي على رواية حكايتين متداخلتين في آن واحد، اما في التناوبي فتتقاطع حكايتان على أساس توقف إحداهما لتفسح المجال أمام الثانية كي تتقدم ثم تتوقف الثانية كي تسمح للاولى بمواصلة تقدمها في السرد.
إن هذا التصنيف الفني لاساليب الحكاية لا اختلاف عليه ، لكننا نكتشف في قصة “المحطة” نوعا آخر من هذه الاساليب قد يؤسس الصنف الرابع، ويمكن تسميته “تزاوج حكايتين”، يقوم ذلك بمساعدة الفنتازيا التي يستخدمها الكاتب بعد تفعيل معمق للماساة التي تفرض هيمنتها على الشخصية الرئيسية فيطوق حكايتها الرئيسية ثم يتماهى معها.
إنها خدعة سردية لخلق صورة أخرى لنفس الحكاية. اي يكون القارىء امام صورتين متماهيتين في جسد السرد. فالرجل الواقف عند النافذة وزوجته يعيشان أزمة روحية تدق مطارقها على عالمهما الداخلي جراء فقدان ابنتهما الغالية ، فتندلق صورة اخرى من الذاكرة الوجدانية للرجل.
يظهر رجل المحطة الذي هو انعكاس داخلي لرجل النافذة لغرض الارتقاء بالمنبعث الوجداني الى ذروة اخرى، اذ هتف باسم ابنته الفقيدة التي توهم رؤيتها في حديقة الدار بعد ان استعاد صورتها قبل موتها المأساوي.
هكذا تتعرض شخصيتا الزوج والزوجة الى حالة من الاكتفاء السردي اي بلوغ الغاية التي من اجلها تم خلقهما، انهما تتعرضان الى حالة من التحليق بتحولهما الى طاقة تبث الصور المعذّبة.
إن الاشارات الراعدة التي كانت وعيدا فيما قبل الحدث صارت نتائج ماثلة لتمثيل التفاصيل المادية للماساة ،وكانت الانفجارات التي جاءت بديلا عن صوت القطار الموهوم خاتمة منطقية تقدم تفسيرا لكل العذابات التي سادت اجواء المكان.
إن الكاتب في “المحطة” وكذا في قصة “نزهة” وغيرهما من قصص المجموعة يسحبنا معه في سياحه قلقة في الساحة الخلفية الشاسعة للحدث بحثا عن المعاني المتحركة في العمق، ونعثر على فرصتنا الممكنة في الاستمتاع بما اطلعنا عليه عن طريق الاصغاء الى وابل الاسئلة الرهيبة التي يطلقها الحدث ومادته.
لقد استطاعت \”المحطة\” ان تلبس شكلها الفني الذي لايمكن لغيره إطلاق هذا السيل من الدراما، فحركة الشاحنة التي تحمل السارد والجثة مقطوعة الرأس قد ساعدت على تفعيل الوصف الفنتازي لحال الجثة لدرجة خلق حالة من التماهي بين السارد الجريح والجثة نفسها، فالسارد يتحدث عن الجثة والرأس الموضوع في سلة كأنهما جسمين حييين يريدان أن يقولا شيئا عن مأساة إنسان فقد رأسه، ونحن نسمع عن الملاحم الدينية مثلا إن رأس الحسين بن علي “ع” كان تكلم بعد قطعه في معركة الطف.
كما أن من تفاصيل الحرب العراقية الإيرانية هناك حكاية عيانية رواها واحد من جنود الخنادق العراقيين انه شاهد زميله سائق الجرّافة يعمل عليها طيلة فترة ممتدة نسبيا وهو فاقد الرأس جراء قذيفة مباغته من الجانب الآخر . لقد اعتبرت عملية قطع الراس ماضيا وراهنا ذروة في دراما القتل وقد فعل محترفو القتل في العراق \”الشرق\” عجائب هائلة في هذا المجال.
لكن الكاتب يأخذنا الى معنى آخر من معاني الموت في قصة “الموت الجميل” ويتركز الجديد في بؤرتين هما تسمية الموت بالجميل، بمعنى انه ليس إماتة، والثانية الانكفاء نحو الموروث الشعبي في بناء حكاية الموت.
اعتمد الكاتب في إضاءة جمال الموت على التقاليد الدينية مندمجة مع الموروث الشعبي الملحمي، فالعودة الى نبوءات العرافة في تحديد اقدار الناس يعد غذاء شديد العذوبة للبناء الاسطوري للاحداث.
وانبثقت صورة الموت في هذه القصة باعتبارها تناظرا شديد الاختلاف عن صور الموت التي تضمنتها القصص الاخرى في المجموعة، فأسست اختلافها على حقيقة ان القصص الاخرى خضعت لهيمنة خطط إبادة الحياة وتفعيل اجواءها المأساوية.
فالسرد في هذا العمل يقترح خلق نوع من المصالحة مع الموت باعتباره قدرا صارما لا مناص من حدوثه، لكن التناقض بين ما يريده قابض الحياة “عزرائيل” وبين واقع حياة الشخصية الرئيسة “منذر” قد اوقع العمل في اشكالية ثيمية وفنية، فالحديث عن الصلاة التي يريدها القابض لايرتبط قسرا بغياب الحكومة او بما تفعله الحكومة خاصة وإن للصلاة مفهوما واسعا يحتوي مجمل النشاط الروحي للانسان وهي غير خاضعة لمواصفات شعائرية يصنعها البشر او يغيروا فيها.
إن مجموعة “شرق بعيد” انبثقت عن جهد روحي استثنائي وهي وليدة معايشة فيها الكثير من الفطرة والكثير من المغامرة التي حفزت تاملات كبرى حول مصائر الكائن البشري وشواغله الداخلية.
وقد تكون تلك الابتسامة الغامضة المرسومة على وجه الكاتب في صورته على الغلاف واحدة من دفائنه الملغزة، فطيات الوجه التي ترتفع قليلا من يمين الشفتين وتنحدر بلطف نحو الوسط ثم ترتفع بقوة خفيفة لتصنع خطا نازلا من ارنبة الانف اليسرى تصنع الكثير من السخرية رغم المرح الداخلي للوجة باكمله.
ان مسحة المرح متضافرة مع السخرية والرفض أطلقت كاتبا يمتلك يقيناً عاليا يتغذى من حركة الحياة.